العرب.. وتاريخ علم الأنواء
أخذ العرب شيئاً من معارفهم عن الأنواء من جيرانهم، وتحديداً من الأمم التي كانت تسكن في البلاد الواقعة شمال جزيرة العرب، ولا سيما أهل بابل من الكلدانيين، سكان العراق وقتها، الذين برعوا في معرفة منازل النجوم الثابتة، وحركات الكواكب السيّارة.
ولقد وجّه العرب اهتمامهم منذ وقت مبكر إلى ظواهر المناخ، يدفعهم في ذلك معايشتهم لبيئتهم القاسية، فاهتموا بكل ما يتعلق بالأنواء والتساقط والحرارة، كما درسوا الغطاء النباتي الذي تعتمد عليه حيواناتهم في الرعي. واهتموا كذلك بمسارات هبوب الرياح، وحددوا أنظمتها واستفادوا منها في الملاحة البحرية، فقد وضع البلخي أول أطلس مناخي في العالم سمّاه كتاب الأشكال، كما عالج المسعودي العوامل المؤثرة في المناخ، وبيّن بدقة بالغة العلاقة الوثيقة بين أنظمة الضغط الجوي والمناخ بشكل عام.
غير أن قلة اهتمام الباحثين بتراثنا العلمي المنسي في هذا الصدد، جعل العلماء الأوربيين ينكرون فضل نظرائهم العرب المسلمين في كثير من الاكتشافات المناخية، التي تُعد بكل المقاييس إحدى ابتكارات العرب في زمن ازدهار الحضارة الإسلامية، من القرن العاشر الميلادي حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وصنّف العلماء العرب، وعلى رأسهم ابن سينا، الرياح والأمطار والسحب والبروق والرعود تصنيفاً دقيقاً، في حين أن هذه الظواهر لم تُصنّف بهذه الدقة العلمية في أوروبا إلاّ في القرن التاسع عشر، الأمر الذي تنبّه إليه مفكرون أوربيون قلائل أنصفوا الحضارة العربية، من أمثال برتراند راسل، ممن اعترفوا بفضل العرب على العالم في هذا المجال، وغيره من المجالات الأخرى
ومن ثم جاء كتاب الباحث الدكتور أحمد عطية الصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان تاريخ علم الأنواء عند العرب، يرصد الجوانب المختلفة لهذا العلم العريق لدى العرب، كأحد العلوم المتفرعة عن علم الفلك، والذي يُعنى في المقام الأول بالأمطار والرياح، وكيفية تكوّن السحب المُمطرة، وتأثّرها بحركة الأجرام السماوية.
يقول المؤلف إن حركات النجوم والقمر والشمس، وما يتبعها من تغيّر حاد في فصول السنة، ويرتبط بها من حر الأيام وبردها، ومطرها وريحها، دفعت العرب الأقدمين إلى مراقبة هذه الحركات، لمعرفة أوقات طلوعها وغروبها، وبيان مدى ارتباط ذلك بأحداث طبيعية يعيشونها في حياتهم اليومية، حِلاً أو ترحالاً، وخاصةً الأحوال الجوية التي عُرفت بالأنواء. وتختلف المنزلة القمرية التي تشرق ساعة غروب الشمس أو ساعة شروق الشمس، باختلاف الأيام والفصول، وقد ربط العرب هذا الاختلاف بأحوال الجو والرياح والأمطار، وأطلقوا لفظ الأنواء على شروق منازل القمر الثمانية والعشرين لأن ارتفاع هذه المنازل ساعة شروقها من الأفق إلى أعلى يشبه دابة ناهضة تنوء بحملها الثقيل.
وبمرور السنين، اقتصر استعمال اسم الأنواء على المنازل القمرية التي تشرق في مواسم الأمطار، ثم امتد هذا الاسم إلى الأمطار نفسها، فصارت لفظة الأنواء تعني الأمطار، وهو المعنى الذي مازال دارجاً على ألسنة العامة حتى الآن، في بعض البلدان العربية، ومن بينها مصر. وينقل المؤلف مقتطفات من كتيّب بعنوان كتاب السر، لأبي معشر البلخي (171 هـ – 271 هـ)، وهو أحد أقدم الفلكيين المسلمين، وكان لكتيّباته تأثير عميق على التاريخ الفكري الإسلامي، حيث تناول البلخي علم الأنواء من وجهة علمية دقيقة، وأورد فصلاً كاملاً عن تفسير أسباب هبوب الرياح وهطول الأمطار. يقول البلخي : أمّا الرياح والأمطار فإنها تكون من البخاريّن اللطيفيّن اللذيّن يرتفعان من البحار والأنهار قبل طلوع الشمس، فقد ترى تلك الساعة والبخار صاعد يشبه الدخان، فأحد البخاريّن يابس، وصعوده من قطر الأرض تنشأ منه الرياح ذات الرعود والبروق والهبوب والصواعق والشرر، وما يشبه هذا النحو. والبخار الثاني رطب، وصعوده من جوهر الرطوبة، ومنه ينشق الضباب والجليد والثلوج والأمطار.
وتأمّل العرب السماء، وضبطوا ما بها من نجوم وكواكب ضبطاً علمياً، بحسب الإمكانيات المتاحة في ذلك العصر، ومن ثم حددوا بروجها، وبرعوا في تدقيق الحساب والتقويم، ما بين القمري والشمسي. وهكذا، كانت السماء بالنسبة لهم هي المعلم الأول. وربط العلماء العرب، نتيجة لأرصادهم الخاصة، حدوث الأنواء، بحركة النجوم في شروقها وغروبها، خاصة بالمنازل القمرية الثمانية والعشرين، وبنوا على ذلك تنبؤاتهم العلمية بسقوط الأمطار عاماً بعد عام. وما يدل على أن العرب كانوا على دراية واسعة بعلم الأنواء كتب الأنواء العربية القديمة التى من بينها كتاب أبي عثمان الجاحظ، تحت مسمى الأنواء والأزمنة
ولقد جاء في كتاب المحيط في اللغة: النوء من أنواء النجوم، وهو سقوط نجم بالغداة مع طلوع الفجر وطلوع آخر في حياله في تلك الساعة. وناء الشيء ينوء: أي مال إلى السقوط، ويُقال: وما بالبادية أنوأ من فلان: أي أعلم بالأنواء منه.
أمّا أبو نصر بن حماد الجوهري، فيقول في كتابه الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: والنوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته.
وتطرقت كتب الأنواء التي صنّفها العرب إلى بيان خارطة السماء، بما في ذلك النجوم والكواكب ومنازلها، والقمر ومنازله، والبروج والرياح وعلاقتها بالنجوم والقمر والسحاب. كما دوّن الجغرافيون المسلمون الظواهر المناخية في مؤلفات تضمنت آراءهم ونظرياتهم، التي تعرضت لدراسة الغلاف الجوي وطبقاته، وما يحدث فيه من تبخّر وتكاثف وتساقط ورياح وأعاصير، وغير ذلك.
وعلى رأس الكتب المُفردة بالكامل لهذا العلم، كتاب “لأنواء في مواسم العرب، لمؤلفه العلاّمة المعروف عبد الله ابن قتيبة الدينوري، (213 هـ- 276 هـ/828 م- 889 م)، وهو الكتاب الذي يقع في أكثر من 350 صفحة، ويُعد المرجع الأساسي لصلب المادة العلمية المكتوبة في مجاله. وذكر فيه الدينوري تفصيلاً ما كانت عليه العرب من براعة مشهودة، في علم الأنواء، وما قدّموه للعالم من مآثر كبرى من شأنها أن تجعلهم رواد علم الأرصاد الجوية في العالم أجمع.
يسجل الدينوري، في مقدمة كتابه، أن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، من مهله إلى ثمانٍ وعشرين ليلة، فإن كان الشهر تسعاً وعشرين استسر ليلة ثمانٍ وعشرين ليلة تمضي من الشهر، وفي السِّرار نازل بالمنازل، فإذا بدا من الشهر الثاني هلالاً طلع، وقد قطع ليلة السِّرار منزلاً من هذه المنازل.
ويضيف: وتلك المنازل الثمانية والعشرون تبدو للناظر منها في السماء أربعة عشر منزلاً، وتخفى عنه أربعة عشر منزلاً، وكذلك البروج وهي اثنا عشر برجاً، كل برج منزلان وثلث من هذه الثمانية والعشرين، وإنما يبدو لك منها ستة بروج، وهذا يدل على أن الظاهر لنا من السماء لأبصارنا نصفها.
وبذلك، ترك العلماء العرب المسلمون، كذلك، جهداً مميزاً من الانتاج الفكري والعلمي في إطار علم الأنواء، حيث أخذوا أولاً بالدليل التجريبي، إلى جانب الدليل الاستنتاجي، مستندين في ذلك إلى دعوة القرآن الكريم إلى التبصّر والتفكّر في خلق الأرض والسماء، لبيان معجزات الله سبحانه وتعالى في الكون.
محمد سيد بركة