مقالات

أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال

(تاريخ العالَم ليس سوى سيرةَ الرجال العظماء)، تلك كانت رؤيةَ الكاتب والمفكر الاسكتلندي “توماس كارليل” حيث طرح في كتابِه الذائع الصيت (الأبطال: عبادة البطل والبطولة في التاريخ) نظرية الرجل العظيم Great Man theory. وكيف أن الأبطال هم من شكلوا التاريخ من خلال قراراتِهم وسماتِهم الشخصية. وعلى نفس النسق تقريبا؛ تم سحب واستطراد نظرية البطولة heroic theory، لتشمل العلماء والمخترعين الذين ساهموا في تغيير مسيرة الحضارة البشرية. ونتيجة لدورهم المعرفي الكبير هذا؛ تم التعامل معهم بنوع من (التقديس) والانبهار والإعجاب.

لذا يغلب توصيف هؤلاء العلماء والمخترعين بأنهم عباقرةً وعظماءَ وأبطالا؛ لدرجة أن البعض يُنزّهُهم عن الخطأ والوقوعَ فيه، فضلا عن ارتكابهم للجرائم والمخالفات، وهذا ما لمستُه من بعض ردود الأفعال والاستفسارات، عندما نشرتُ مقالا سابقا حملَ عنوان: (صراع دِيَّكَة العِلم).

المشكلة تكمن في أنَّ نظرة الإعجاب تجاهَ الشخصيات التاريخية المؤثرة والملهِمة لا تقف عند جعلهم أبطالا وعظماء، وإنما أيضا قد تنزلق كذلك إلى خلقِ مزيد من الهالة والبهرجة حولهم، تنتهي بصناعة الأسطورة واختلاق الخرافة المرتبطة بتلك الشخصية.

من ذلك مثلا؛ أن الإسكندر المقدوني ليس فقط عند البعض قائدا عسكريا فذًّا، ولكنه في مرحلة المراهقة استطاع ترويض الحصان الجامح (بوسيفالوس)، الذي كان يطرَحُ أعتى الرجال أرضا. كما يُفضل أحيانا خلق أجواءٍ من الغموض والإثارة في حياة العباقرة، فحتى الآن؛ لا نستطيع أن نجزم إن كان الشاعر المتنبي قد ادعى النبوة أم لا.

في حين أن أديب الإنجليزية الأوحد “شكسبير” يقول البعض أنه ليس شخصية واحدة وإنما عدَّة شخصيات اختزلها الوعي الجمعي الإنجليزي في شخصية شكسبير!. بعض أخبار القادة والعظماء لا تكتمل عند البعض إلا بعد أن يضفي عليها ظلال من الرومانسية؛ حتى وإن كانت مختلقة. فنابليون بونبارت ربما كان يعشق زوجتَه “جوزافين”؛ ولكن أيضا كان في حياتِه عدد غفير من العشيقات والمحظيات، لذا يحق لنا أن نشكك في نسبة صحة عبارة (وراء كلِّ رجلٍ عظيم امرأة) أنها من حِكمه وأقوالِه.

ما سبق؛ عبارة عن مقدمة مُطولة بعض الشيء، ولكنها ضرورية لكي أصل إلى محاولة تفسير وتبرير؛ لماذا ترتبط شخصية العديد من رموز و(عباقرة) العلوم ببعض القصص والأخبار والأحداث المختلقة وغير الدقيقة؛ والتي غالبا ما تكون من نسج الخيال. ما دعاني لكتابة هذا المقال؛ هو بعض الاستفسارات التي وصلتني عن مقالي الأخير (السياحة العلمية)، والتي تم الإشارة فيه بشكل طفيف إلى أن بعض القصص المنسوبة لمشاهير العلماء مشكوك فيها، مثل سقوط تفاحة نيوتن؛ أو استخدام جاليليو لبرج بيزا المائل.

ولهذا سوف أحاول بصورة مختصرة نسبيا مناقشة بعض النماذج للقصص والأخبار العلمية المشهورة والمشكوك في صحتها.

سقطتْ أمْ لَمْ تَسقط؟ .. ذاك هو السؤال.

التمازج بين نظرية البطولة سابقة الذكر والخرافة العلمية scientific myth أفرز نوعاً من (الدراما العلمية التشويقية) حيث لم يعد كافيا أن نُثني ونمدح عالِما بأنه عبقري ولـمّاح ومتفانٍ في إجراء التجارب، وهذا سياق علمي يفتقد للإثارة والتشويق، لأن أيَّ عالِمٍ أو مخترعٍ؛ يظل يعمل في مختبره لفترة طويلة بِجد وتفانٍ، قطعا سوف يصل لشيء ما. وبدلا من حالة البرود في مسار الأخبار العلمية، تدخل الآن على مسرح الأحداث والقصص المتكررة بأن العالم توصل لهذا الاكتشاف في لحظة إلهام دراماتيكية (تفاحة نيوتن)، أو من خلال إجراء تجربة في ظروف غرائبية (برج بيزا).

ولنبدأ القصة من أولها، أي منذ ألفيْ سنة قبل عصر نيوتن، الكل يعرف القصة المشهورة عن العالم اليوناني “ارخميدس” الذي (حسب الأسطورة العلمية) عندما اكتشف قانون الطفو، أخذ يجري في الطريق وهو عريان صارخاً Eureka “وَجَدْتُها.. وجدتها”.

في واقع الأمر لم يتم الإشارة إلى هذه الحادثة في أيٍّ من كُتب أرخميدس الأصلية، وأولُ كتاب ذُكرتْ فيه هذه القصة الشيقة والطريفة، كان بعد أكثر من ثلاثة قرون من عصر ارخميدس. حيث وردت القصة في كتاب اسمه “المعمار” ألفه مهندس معماري روماني يُدعى “ماركو فيتروفيو”.

والسؤال المطروح الآن هو: هل كان هذا المعماري فيتروفيو هو مَن هندس واختلق قصة صرخة اليوريكا العارية أم أشخاصٌ مجهولين قبْلَه؟ وماذا عن أساطير قيام أرخميدس بتسليح جيش جزيرة صقلية بمرايا ضخمة حارقة أو بروافع وكماشات ضخمة تحطم سفن الأعداء والغزاة؟.  هل هذه الأخبار من نسج الخيال أيضا؟؟ .

لم يثبت حتى الآن أن أرخميدس ذكر قصة الاغتسال في الحمام؛ وتاج الملك؛ وحتى عندما أعلن في عام 1906 أنه تم في اسطنبول اكتشاف مخطوط أحد كتب أرخميدس القديمة المسمى (كتاب الطريقة)، أصيب العديد بخيبة أمل عندما لم يوجد في هذا الكتاب أي إشارة لتلك القصة الأسطورية. الغالب أن قصة أرخميدس مختَلَقَة وغير صحيحة، بدليل أنه لم يذكرها بنفسه مع أنها حادثة غريبة وجديرة بالرواية.

وعلى نفس النسق نجد أن قصة سقوط تفاحة نيوتن على أم رأسه ومن ثم تسبب هذه الخبطة في (جذب) انتباه لربط دوران القمر حول الأرض بقوى الجاذبية، نجد أن هذه القصة الشيقة والنادرة؛ كان من المفروض أن يكررها نيوتن كثيرا على زواره وتلاميذه؛ بل وحتى على عجائز قريتِه، فضلا عن أن يتكاسل عن توثيقها في أي من كتبه المختلفة. لكن الواقع أن نيوتن حتى وإن عُمر طويلا حتى بلغ سن 84، لم تشهر على لسانه هذه القصة إطلاقا، ولم تظهر إلا بشكل طفيفٍ جدا ومختصر في كتاب نشر بعد وفاته بحوالي 25 سنة.

لقد قام الكاتب وعالم الآثار “وليام ستوكلي” عام 1752 بنشر كتاب خاص عن السيرة الشخصية لنيوتن سماه (ذكريات حياة السير إسحاق نيوتن)، كان جزءٌ منه مبنيٌّ على الحوارات واللقاءات التي أجراها “ستوكلي” مع نيوتن عبر سنوات الصحبة بينهما، وفي بعض سطور هذا الكتاب تم ذكر قصة سقوط التفاحة منسوبةً إلى نيوتن.

بقي أن نقول أن هذه الحادثة إن حصلت فعلا؛ فهي ربما تمت في عام 1665 وهي السنة التي توصف بالسنة العجيبة في حياة نيوتن (مثل سنة 1905 العجيبة في حياة اينشتاين) حيث كان نيوتن في سن الـــ 23، وبعد أن أقفلت جامعة كامبريدج أبوابها بسبب وباء الطاعون الرهيب، رجع نيوتن لمدينته الصغيرة “وولسثروب” وهناك توصل لعدد كبير من بدايات اكتشافاته العلمية في الميكانيكا والرياضيات والبصريات وغيرها، وعليه فإن شجرة تفاح نيوتن المزعومة لا يمكن تحديدُها، لأن نيوتن حسب رواية “ستوكلي” أشار فقط لذكرياته مع سقوط ثمرة التفاح؛ ولم يحدد له بالضبط مكان شجرة التفاح المزعومة.

ونأتي الآن للقصة العلمية المشهورة عن أسطورة العلوم؛ الإيطالي “جاليليو جاليلي” حيث يقال أنه قام في عام 1589م بإثبات خطأ نظرية أرسطو، التي تقول إن الأجسام مختلفة الكتلة؛ تسقط بسرعات متفاوتة؛ وذلك من خلال إسقاط حجريْن مختلفيْ الكتلة والحجم؛ من أعلى برج بيزا المائل. وكما حصل مع أرخميدس من قَبْل ومع نيوتن من بعد؛ لم يثبتْ عن جاليليو بشكل مباشر وصريح، أنه أشار لقيامِه بإجراء هذه التجربة، ولم يتم ذكرُها في أيٍّ من كتُبِه التي ألفها.

وأول إشارة لهذه القصة ظهرت بعد وفاة جاليليو بعدة سنوات في كتاب عنوانه (الرواية التاريخية لحياة جاليليو جاليلي) ألَّفَه عام 1654م أحد تلاميذ جاليليو ويدعى فيفياني. الجدير بالذكر أن تجربة إسقاط الأحجار أو كُرات الرصاص مختلفة الكتلة بهدف إثبات خطأ نظرية أرسطو؛ قد تمت بالفعل عام 1586م، أي قبل الوقت المزعوم لتجربة جاليليو بثلاثِ سنوات. حيث أجراها عالم الفيزياء الهولندي “سيمون ستيفن” مستخدما برج إحدى الكنائس؛ ومن ثم قام بنشر تفصيل نتائج تجاربه في كتابٍ علمي سماه “عِلم السكون الستاتيكا”.

إذا علمنا أن نشر كتاب سيمون ستيفن كان في عام 1586م، أي قبل ولادة فيفياني تلميذ جاليليو بحوالي 36 سنة، سنعلم حينها مدى وجاهة الشكوك في صحة ربط جاليليو بتجربة برج بيزا المائل. المحرج حقا أن مشاكل جاليليو مع الكرات الساقطة والمتدحرجة، لم تقف عند هذا الحد، فمن الثابت تاريخيا أن جاليليو في كتابة المسمى “كتاب الحركة” نشر نتائج أبحاثِه حول قانون الحركة للأجسام الساقطة، ذلك القانون المستخلص من تجربة (دحرجة) وليس إسقاط كراتٍ من الرصاص فوق سطحٍ مائل وقياسِ سرعة سقوطِها.

وبعد عدة سنوات من نشر هذه الأفكار العلمية، حاول بعض العلماء تكرار نفس هذه التجربة ولكنهم لم يتوصلوا لنفس النتائج بالضبط، مما جعل بعض المؤرخين يتهمون جاليليو بأنه قام بشكل متعمد بتعديل وتلفيق fabricate النتائج لتصبح متوافقة مع القانون الذي توصل له.

آفةُ الأخبارِ رُوَّاتُها

في العلم كما في السياسة والأدب؛ نجد أن بعض الأخبار المختلقة والمكذوبة مصدرُها أشخاص آخرون، ولهذا قد يكون عذر أرخميدس وجاليليو ونيوتن حول تلك القصص الخرافية المرتبطة بهم؛ أنها لم تصدر عنهم، وحسبُهُم قول الشاعر العباسي الشريف الرضي.

وهم نقلوا عنّي الذي لَمْ أفُه بهِ ** وما آفة الأخبار إلاَّ رُوَّاتُها

ألبرت أينشتاين؛ شخصية علمية عبقرية بكل المقاييس، واستناداً إلى ما قررناه في أول المقال من (نظرية البطولة)، وما يتبعها من التقديس وعشق الغرائبية. فقد وردتْ قصص (مفبركة) عن اينشتاين تقول: إنه عندما نشر نظريته النسبية المشهورة؛ كان عدد قليل من العلماء يفهما ويدرك أبعادَها. ويُقال من باب الطرفة؛ أنه حينما سأل صحفي عالمِ الفلك البريطاني “السير آرثر إدنغتون” إن كان صحيحا أنه أحد الأشخاص الثلاثة في العالم الذين يستطيعون فهم النظرية النسبية، أجاب إدنغتون قائلا: (أنا أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث غيري أنا وأينشتاين !!). الغريب في الأمر أن هذه القصة الطريفة لها سند من الحقيقة، لكنها شُوِّهتْ بشكل كبير. ففي عام 1919م أثبت عالم الفلك البريطاني “السير أرثر إدينغتون” صحة تنبؤِ اينشتاين بالنظرية النسبية فيما يتعلق بانحناء الضوء عند مروره بقرب الشمس.

وبسبب الشهرة العالمية الطاغية التي نالها اينشتاين بعد هذا التأكيد العلمي، قررت جريدة النيويورك تايم أن تُجري مقابلة مع أينشتاين، ولكنها ولأمر غريبٍ جدا وغيرِ مفهوم، أرسلتْ الصحيفة مراسِلَها الرياضي “هنري كراوتش” لإجراء المقابلة مع أعظم العقول البشرية في العالم.

وبحكم أن الصحفي مُتخصص في الرياضة، لم يفهم شيئا من كلام اينشتاين العلمي العميق، لذا حاول أن يُضيف شيئا من التشويق حول هذه النظرية ومكتشفِها، فزعم كراوتش بكل بساطة أن إينشتاين عندما ألف كتاباً خاصاً عن النظرية النسبية بالكاد وجد دار نشر توافق على طباعة هذا الكتاب، لأنه لا يوجد على مستوى العالم إلا حوالي 12 شخصاً يمكن أن يفهموا هذه النظرية المعقَّدة. من الأساطير العلمية الملفقة عن العلماء، تلك القصة المشهورة في مجال تاريخ المخترعات العلمية؛ والمتمثلة في كون أول جملة تم النطق والتحدث بها عبر جهاز الهاتف هي عبارة (سيد واطسون، احضر حالا، أريد أن اراك)، والتي قالها المخترع الأمريكي ألكسندر جراهام بيل عندما نادى مساعدَه السيد “واطسون”.

إن نجاح أول تجربة في التاريخ بنقل الصوت البشري عبر جهاز الهاتف حدث مثير جدا ويستحق جوًا من الحماس أكثر من تلك العبارة الباردة. ولكي نفهم هذا البرود المحير؛ تقول الأسطورة العلمية أن سبب إطلاق هذه الجملة الغريبة، يرجع  إلى كون السيد جراهام بيل وأثناء عمله في مختبره قام عن طريق الخطأ بسكب كمية من حمض البطارية على طاولة المختبر، مما جعله يسارع باستدعاء معاونه السيد واطسون لمعالجة الموضوع. على كل حال لقد تبين من مراجعة سجلات التجارب العلمية لمختبر السيد جراهام بيل في يوم العاشر من شهر مارس لسنة 1876م، (وهو اليوم الذي تم فيه الانتهاء من اختراع جهاز الهاتف) أنه لا توجد أي إشارة لحصول حادثة انسكاب الحمض المزعومة.

ونختم موضوع اختلاق وتلفيق الأخبار والقصص عن عباقرة العلماء؛ أنه حتى مع الشخصيات العلمية التي اشتهرت بالمثابرة والجد والاستغراق الكامل في العمل مثل المخترع الأمريكي توماس أديسون، إلا أننا نجد أنه لا يشفي غليل البعض أن يكون اختراعُه العلمي الأبرز (المصباح الكهربائي) إلا نتيجة ظروف دراماتيكية شيقة وغريبة. من الثابت تاريخيا وعلميا أن أديسون وظف العشرات من العلماء والفنيين لعدة سنوات لإجراء ألاف التجارب على المئات من المواد المختلفة التي يمكن استخدامها كفتيل ملائم للمصباح الكهربائي.

وبدلا من نسبة الفضل للمثابرة والاجتهاد، تقول القصة المفبركة أن الحظ والإلهام كان حليف أديسون عندما لاحظ طرف خيط قطني خارج من سترته الصوفية، ومن هنا بدأت الاسطورة حين قالوا أن فكرة استخدامه للخيط القطني الـمُكربَن كأول مصباح كهربائي ناجح؛ بدأت من هذه الحادثة المزعومة.

أساطير عربية في دنيا العلوم

بالإضافة لما سبق ذكره، توجد قصص أخرى من نسج الخيال عن كمٍّ غفيرٍ من المشاهير والعلماء. ومن السهل نسبيا اكتشاف تلك القصص المختلقة، لأن المؤرخين والعلماء الغربيين لا ينساقون كثيرا خلف العاطفة، ولديهم الجرأة العالية في نقد الأخبار والتاريخ. للأسف الوضع يختلف تماما في واقعنا العربي والإسلامي، حيث تسوقنا العاطفة والحنين لأمجاد الحضارة الإسلامية الغابرة إلى التشبّث بأي قصة أو خبر ولو كان ملفقا عن عظمة العلماء العرب.

ولهذا قلما تجد من يشكك في صحة الأساطير العلمية في لباسها العربي الفضفاض. على سبيل المثال؛ يحق لنا مثلا أن نفخر بالطبيب المسلم الكبير ابن سينا، قد يكون من أوائل من شخّص أعراض مرض (الحب) وأحداث قصته المشهورة مع الأمير العاشق في مدينة همذان تدل على ذلك. وتقول القصة أن ابن سينا شخّص حالة المريض وعرف المرأة التي يحبها عن طريق جس نبض المعصم الأيسر للمريض. ولكن مهلاً؛ فهل هذه القصة حقيقية أم هي من نسج الخيال؟ ويحق لنا أن نشكك فيها لأن كتب تاريخ علم الطب تذكر قصة مطابقة تماما حصلت قبل زمن ابن سينا بأكثر من 1300 سنة مع الطبيب اليوناني الأشهر أبو قراط.

وفي هذه القصة الغارقة في القدم؛ بدلا من أمير همذان العاشق، نجد أن ابن ملك مقدونيا بيرديكاس أصيب (بمرض الحب) الذي لم يستطع أي طبيب أن يشفيه منه، حتى تم استدعاء الطبيب الأشهر أبو قراط الذي لم يُشخِّص المرض فقط، بل عرف من هي المرأة التي يحبها هذا الشاب المغرم وأنها إحدى محظيات وجواري أبيه الملك.

لا شك أن العالم العربي الحسن ابن الهيثم؛ أحد أبرز علماء الفيزياء وخصوصا في علم الضوء والبصريات، ومع ذلك لن تجرنا العاطفة للقبول بالإشاعة العلمية التي تنسب لابن الهيثم حول اختراع النماذج البدائية من الكاميرا، وكيف أنه توصل لهذا الاختراع بعد أن كان مختبئً (وقيل محبوساً) في غرفة مظلمة بها ثقب صغير كان يراقب منه جنود طاغية مصر الحاكم بأمر الله. وبهذا تزعم الخرافة العربية، أنه بذلك الثقب الصغير في جدار الغرفة المظلمة أو قماش الخيمة المزعومة، تم اختراع جهاز الكاميرا (القمرة المظلمة) camera obscura على يد ابن الهيثم. بينما المصادر التاريخية العلمية الأوروبية، تثبت أن ابن الهيثم بالفعل قد استخدم الكاميرا لكنها كذلك تشير إلى أنه في النسخة اللاتينية المترجمة من كتاب البصريات الذي ألفه أبن الهيثم عام 1027 ميلادي، يوجد فيها على لسان ابن الهيثم بعد ذكر الكاميرا اعتراف صريح مصاغ باللاتيني الفصيح: Et nos non inventimus ita (نحن لم نخترعها). ومن شبه الثابت تاريخا أن الأشكال والنماذج الأولى للكاميرا أو القمرة المظلمة معروفة منذ قدماء الصينيين، كما توجد لها إشارات في تاريخ اليونان. وختاما لو حصل في مستقبل الأيام نشوء حركة نقدية جادة في تدقيق التراث العلمي العربي، فمن المحتمل أننا سوف نخسر العديد من الأساطير العلمية العربية من مثل قصة طيران عباس بن فرناس، أو اختراع جابر بن حيان لنوع من الورق لا تحرقه النار، أو قصة تحديد الرازي للموقع المناسب لمستشفى بغداد باستخدام قطع اللحم التي لم تتعفن بسرعة. الحقيقة العارية غالبا بشعة ومنفرة والعيش في الوهم الخادع أجمل وأريح، والبعض منا قد حسم الأمر على مبدأ القاعدة المشهورة (كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر !!).

بقلم/ أ.د/ أحمد بن حامد الغامدي

الرئيس السابق لاتحاد الكيميائيين العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى