حلول مبتكرة

العلم يصلح ما أفسده الإنسان.. تطهير البحيرات بفلاتر بيولوجية للإمساك بالملوثات غير العضوية

لا أفهم “حكمة” حالة قصر النظر التي تعانيها المجتمعات البشرية، حيث نتحلى بالأنانية واللامبالاة صباحا حينما يأتي الأمر لتلويث البيئة بصرفنا ومخلفاتنا، ثم نشتكي مساء ونتأفف بحثا عن “إصلاح” ما أفسدناه، ولا أعلم إن كان الإصلاح سيجدي دائما في استعادة ما راح بـ”فضل” قصر نظرنا هذا أم لا. لكن على كل الأحوال هناك من يبالون، ويهتمون ويعملون “بالعلم” على تطهير البحيرات والأراضي الرطبة من آثار العدوان البشري الأعمى، ويبدو أنهم أفلحوا.

مارينو موريكاوا Marino Morikaa عالم في مجال العلوم البيئية، ولد في هوارال في بيرو، وأمضى طفولته في صيد السمك والسباحة والتنزه مع أصدقائه في منطقة إل كاسكاجو الرطبة في تشانكاي. نشأ في أسرة بيروفية يابانية علمته أن يكون ممتناً للباتشاماما Pachamama وهي إلهة الأرض والحياة والحصاد والزراعة والمحاصيل والخصوبة لدى قبائل الشعوب الأصلية في منطقة الأنديز. أخذته الحياة المهنية إلى اليابان بفضل منحة دراسية لدراسة الدكتوراه في العلوم الإنسانية والبيئية، وتخصص في الكتلة الحيوية في جامعة تسوكوبا.

في عام 2010 تلقى مكالمة من والده يبلغه فيها أن منطقة إل كاسكاجو El Cascajo على وشك أن تختفي، فاستفاد مارينو من إجازة في الجامعة، حيث يقود فريق بحثي في القضايا البيئية، واشترى تذكرة وسافر آلاف الكيلومترات لإنقاذ المنطقة، عندما وصل بعد 14 سنة من الغربة، كان أول شيء فعله هو الركوع والاعتذار، فما كان أمامه كان مكانًا لا يمكنه التعرف عليه، ذو رائحة كريهة، ولم يكن تلك الجنة التي عرفها في طفولته.

لم يكن التحدي الأول الذي واجهه هو إيجاد حل علمي للمشكلة، بل الحصول على المال لتحقيق ما كان يدور في خلده، طرق أبوابا كثيرة ولم يحصل على ما يريد، فقام بتغيير خطته: حيث قرر استخدام أمواله الخاصة لتمويل المشروع وطلب من العمدة الحصول على تصريح، قائلاً له إنه إذا لم يحصل على أي شيء خلال عام، فسوف يعود إلى اليابان. فأعطاه له. ولمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال قام بملاحظة ما يجري في المنطقة من حيث عدد الأشخاص الذين يمرون، والحيوانات الموجودة هناك، ونقاط التلوث الأكبر.

ثم وضع عنه بدلته الخاصة وبدأ في إزالة الأوساخ والطحالب الخضراء التي تلوث المكان، كل هذا بمساعدة فقاعات النانو المصنوعة من مواد عضوية، وهي أصغر من فقاعات الصودا بعشرة آلاف مرة، لديها أيونات إيجابية وسلبية، مما يولد تركيزًا عالٍ من الطاقة تجبر البكتيريا على التمسك بها، وبعد ذلك، بما أن البكتيريا لم تعد قادرة على الهروب، فإنها تدمر نفسها، كما صمم مورينو فلاتر بيولوجية للإمساك بالملوثات غير العضوية، مثل المعادن الثقيلة والمعادن، التي تلتصق بالأسطح وتتحلل بالبكتيريا. وبحلول عام 2013، تم استعادة 98٪ من الأراضي الرطبة، وعادت الطيور، إلى الأراضي الرطبة، فمن ديسمبر إلى مارس من كل عام، تأخذ تلك الطيور المنطقة كنقطة توقف، وقد جلب هذا السعادة لسكانها واحتمالات التنمية، كون المكان يمثل موردا سياحيا.

لم يكتف مارينو باستخدام التقنية في مساعدة بلده، بل ساعد أيضا في استعادة 30 موائل حول العالم، وأصبح عالما معترفًا به من قبل اليونسكو، تجرى معه المقابلات في وسائل الإعلام العالمية مثل ناشيونال جيوجرافيك وتيليمونودو Telemundo، ويتلقى الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني من رؤساء البلديات والحكام الإقليميين والطلاب الذين عرضوا عليه الدعم.

وفي تلك اللحظة من النشوة سألوه عما إذا كان قد فكر في استعادة بحيرة تيتيكاكا Titicaca، وهي واحدة من مناطق الجذب السياحي الرئيسية في بيرو، وهكذا بدأت قصة أخرى تسمى مشروع ريتو 15-تيتيكاكا، لجعل هذا المشروع حقيقة، قدم مارينو نتائج مشروعه الأول إلى سلطات بونو، وتحدث مع السكان وحصل على دعم من منظمة غير حكومية وعدة شركات، كما قام بحملة في مدارس بونو حتى يفهم الصغار أهمية البحيرة في حياتهم.

وبنفس النظام العضوي الذي استخدمه لأول مرة، انتهى مارينو من فائض العوالق والبكتيريا الضارة من جزء من البحيرة في 15 يوما، وقد فتح نجاح هذا المشروع الباب لتطهير البحيرة بأكملها بالتعاون مع حكومة بوليفيا، في عام 2018، لاستعادة البحيرة كاملة، كونها أكبر بحيرة في أمريكا الجنوبية، وتقع على ارتفاع 4000 متر فوق مستوى سطح البحر بين كل من بيرو وبوليفيا، كما يهدف المشروع التالي له إلى استعادة بحيرة هواشاكينا القريبة من مدينة إيكا الجنوبية في بيرو.

حالة التلوث التي أصبات تلك البحيرتين، هي حالة 40% من بحيرات العالم، وعلى الرغم من توافر التقنية العضوية التي استخدمها مورينو في تطهيرها، إلا أنها تحتاج إلى دعم بملايين الدولارات لتنفيذ ذلك التطهير، فهل يصحو ضمير العالم في المساء، لإصلاح ما أفسده بالنهار؟

د. مجدي سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى