مقالات

الأعمال المنزلية وتهيئة المرأة للنبوغ العلمي

لمدة قاربت نصف قرن من الزمن احتفظت عالمة الكيمياء البريطانية دورثي هودجكن بكونها آخر امرأة تحصل على جائزة نوبل في الكيمياء، وهذا الانقطاع الطويل يشير إلى صعوبة الإنجاز الذي حققته هذه السيدة. الجدير بالذكر أن بعض وسائل الإعلام كان لها سابقا، بعض النظرة السلبية وعدم التقدير الكامل للإنجازات العلمية التي تحققها النساء، لدرجة أنه عندما فازت دورثي السابقة الذكر بجائزة نوبل عام 1964م نُشر الخبر في الصحف المحلية البريطانية كالتالي: (ربة منزل من أكسفورد تربح جائزة نوبل) أو (زوجة بريطانية تحصل على جائزة نوبل). على الرغم أن دورثي كانت أول بريطانية على الإطلاق تحصل على أي من جوائز نوبل، وبدلاً من أن تصفها الصحافة البريطانية بالمكتشفة أو العالمة أو المخترعة أو العبقرية نجدها بكل برود يتم فقط وصفها بربة المنزل (وهي وإن كانت مهمة سامية) إلا أن التوصيف جاء في سياق التقليل والاستخفاف.

الغريب في الأمر، أن النساء بالفعل اكتسبن العديد من المهارات المعيشية الهامّة أثناء عملهن في منازلهن، وانعكست هذه المهارات في تعزيز فرصهن بتحقيق إنجازات علمية مميزة.

من أهم المهارات النفسية والسلوكية في حياة ربة المنزل هي الصبر وطول البال، وفي هذا السياق نفهم لماذا تحملت الزوجة البريطانية دورثي هودكن أن تظل لمد ثلاثين سنة وهي تجري التجارب المتواصلة لمعرفة التركيب الكيميائي لمركب الأنسولين الضخم والمعقد جدا.

الجميع يعرف التفوق الكبير للنساء في الأعمال والأشغال اليدوية الدقيقة مثل التطريز والحياكة والقص والتفصيل، وبشكل أو بآخر نجد أنه لاكتساب النساء المَلَكَة الفطرية لهذه المهارات عزز ذلك من فرصهن في التفوق العلمي في بعض المجالات. يوم الأربعاء الماضي السابع من شهر أكتوبر 2020 تم الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء لهذا العالم والتي مُنحت في مجال تعديل المورثات والجينات البشرية بواسطة تقنية (مقصات الجينات genes scissors). في واقع الأمر هذا النوع من الهندسة الوراثية وبالرغم من مساهمة العديد من الرجال في مجال تطوير تقنية مقصات الجينات الجزيئية مثل العالم الإسباني فرانسيسكو موخيكا (وهو من اكتشف هذه التقنية واقترح تسميتها بتقنية كريسبر CRISPR)، إلّا أنه عند منح الجائزة كانت نسائية بالكامل.

لأول مرة في التاريخ تمنح امرأتين جائزة نوبل بشكل مشترك في جوائز نوبل العلمية بدون مشاركة أي رجل. وإذا علمنا أن جوائز نوبل يجوز أن تمنح بشكل مشترك لثلاثة أشخاص، لهذا ستظهر ولا شك علامات الاستفسار حول لغز استبعاد الرجال ومنح الجائزة فقط لعالمة الجينات الأمريكية جينفر داودنا والفرنسية إيمانويل شاربانتييه. في بداية ظهور تقنية تعديل الجينات الوراثية كانت تسمى هذه العملية (تصحيح وتنقيح الجينات DNA editing) ولكن يبدو مع دخول العنصر النسائي بشكل طاغي وكاسح في هذا المجال العلمي (الدقيق) أخذت تسمية (مقصات الجينات) بالانتشار أكثر وربما ذلك لارتباط هذه العملية بالقص والخياطة والشك والتطريز !!!.

الكيميائية الأمريكية ستيفاني كووليك لها سجل حافل في مجال الكيمياء حيث حصلت على جائزة القلادة الوطنية الأمريكية للتكنولوجيا، وكذلك حصلت على أعلى جائزة كيميائية تمنح في أمريكا وهي قلادة بيركن المقدمة من الجمعية الكيميائية الأمريكية. في أوائل شبابها ورثت ستيفاني محبة الأقمشة والخياطة من والدتها، ولهذا لا غرابة أنها كانت ترغب أن تتخصص في مجال تصميم الموضة. ولكن بعد تخرجها من الجامعة في مجال الكيمياء حصلت على وظيفة في الشركة العملاقة في مجال الصناعات البتروكيميائية والبوليمرات شركة دو بونت وهي الشركة التي غيرت أزياء المرأة عندما اخترع علماؤها مادة النايلون الحريرية الواسعة الاستخدام في الجوارب والملابس النسائية. في أجواء الأنسجة والخيوط والألياف الاصطناعية وباللمسة النسائية الخاصة للكيميائية ستيفاني استطاعت التوصل لاختراع نوع جديد من ألياف البوليمرات يدعى كيفلار Kevlar التي يمكن (غزلها) لإنتاج أنوع قماش فائقة القوة تستخدم في تصميم ملابس الجنود في ساحات القتال وفي صنع الصدريات الواقية من الرصاص. بشكل أو بآخر، استطاعت ستيفاني أن تمزج بين هوايتها في تصميم ملابس الموضة وفي صناعة الملابس الحربية الفائقة.

كذلك نجد أن الكيميائية والمخترعة الأمريكية روث بينريتو مزجت ونسجت خيوط تشابك بين العلم وافتتان النساء بالملابس والمظهر. فبالإضافة لشهادة الدكتوراة من جامعة شيكاغو كذلك كان لدى السيدة روث حوالي 55 براءة اختراع لإنتاج أقمشة قطنية مقاومة للأوساخ والتجاعيد ولا تحتاج للكي بعد الغسيل (wash and wear). هذه الاختراعات النافعة من هذه الكيميائية ليست فقط جلبت الراحة النسبية للسيدات وربات المنازل في التخفيف من أعباء غسيل وكوي الملابس بل إنها أنعشت وأنقذت قطاع صناعة القطن الذي شهد قديما تراجع اقتصادي بعد انتشار الألياف الصناعية.

وعلى ذكر غسيل الملابس وهي من أكثر الأنشطة المنزلية التي تنزعج منها المرأة في الغالب، نجد أن عالم (الغسيل والصابون) كان سبباً في التوصل لبعض الاكتشافات العلمية الهامة. في الوقت الحالي، كما لاحظنا يعتبر المجال البحثي الخاص بالتعديل الوراثي بواسطة مقصات الجينات هو واحد من أهم وأحدث المجالات العلمية، ولكن قبل حوالي مائة عام كان مجال كيمياء السطوح هو أحد أكثر المجالات العلمية الواعدة في مجال الأبحاث المتقدمة. في عام 1932م حصل رفينغ لانجمير على جائزة نوبل في الكيمياء كثاني عالم أمريكي يحصل على جائزة نوبل نظير أبحاثه المتعلقة بكيمياء السطوح، والجدير بالذكر أن أبحاث لانجمير كانت امتداداً لأبحاث ودراسات الشابة الهاوية للعلوم أغنيس بوكلز. في قصة أشبه بالخيال كانت تلك الفتاة الألمانية تجري تجاربها الأولية عن ظاهرة التوتر السطحي وكيمياء السطوح في مطبخ منزلها وباستخدام صابون الغسيل وفي سن الثامنة عشرة وبدون أن تكون قد درست بالجامعة، تمكنت تلك الفتاة عام 1891م من قياس مقدار التوتر السطحي للماء ومن نشر أول بحث لها في مجلة الطبيعة Nature وهي المجلة التي كانت وما زالت أهم وأعرق مجلة علمية على الإطلاق. لإجراء تلك القياسات العلمية المذهلة اخترعت الآنسة بوكلز جهاز علمي يسمى الحوض المنزلق ولاحقا قام العالم الأمريكي لانجمير بتطوير ذلك الجهاز وأطلق عليه بكل بساطة اسم: حوض لانجمير.

مساق حديثنا وصل بنا إلى المطبخ المنزلي والصابون والمنظفات والحوض المائي ومع ذلك، ينبغي ألّا نغفل أن المرأة تعتبر المطبخ مملكتها الخاصة وتقوم فيه بواحدة من العمليات الكيميائية السحرية: الطبخ.

تعتبر عالمة الكيمياء كاملا سوهوني من رواد العلم في الهند، حيث كانت أول سيدة تحصل على درجة الدكتوراه وليس هذا وحسب بل حصلت عليها من جامعة كيمبردج البريطانية العريقة. كانت أبحاث السيدة سوهوني تتعلق باستخلاص الأنزيمات من المواد الغذائية والعينات النباتية وقد أجرت أبحاثها في مختبر الدكتور فريدريك هوبكنس مكتشف الفيتامينات والحاصل على جائزة نوبل في الطب. في الواقع، حصلت السيدة كامالا على درجة الدكتوراه في وقت قياسي حيث انتهت منها في سنة ونصف فقط وكان ينتظرها مستقبل علمي باهر لو أنها استمرت في الإقامة في بريطانيا. ولكنها عوضا عن ذلك فضلت أن تستجيب لنداء الواجب وأن تعود للهند لمساندة المهاتما غاندي في مساعيه السلمية لاستقلال الهند. الشعب الهندي كان وما يزال شعب فقير جدا ولهذا يحاول العديد من العلماء تحسين أوضاعه المعيشية، ومن هنا دمجت السيدة كاملا سوهوني فطرتها الأنثوية في مهارات الطبخ مع خبرتها العلمية في مجال الكيمياء الحيوية للإنزيمات والفيتامينات المستخلصة من المواد الغذائية. وبتوجيه من أول رئيس هندي للدولة المستقلة الجديدة، بدأت كامالا في البحث عن مواد نباتية غير شائعة الاستخدام ومحاولة معرفة قيمتها الغذائية وإرشاد الطبقات الفقيرة في المجتمع الهندي لإدخالها في منظومتها الغذائية، ومن ذلك مثلا أفضل طرق طبخ واستخلاص نوع خاص من دبس النخيل.

وبعد أن طوّفنا مع المرأة من خلال أعمالها المنزلية من حياكة وتفصيل وغسيل الملابس وتنظيف بالصابون لأدوات المطبخ بعد إعداد الوجبات الغذائية، نختم أخيرا بسيدة المنزل المتوددة والمتبعلة والمتزينة لزوجها. هذا المقال يدور بشكل عام حول مجال علم الكيمياء، وفي حين أننا لا نستطيع أن نحدد من هو أقدم كيميائي في التاريخ نجد أننا وبفضل ارتباط المرأة بالأعمال المنزلية نستطيع أن نحدد من هي أقدم (كيميائية) في تاريخ البشرية. من المهام المنزلية للمرأة القديمة تحضير العطور وأدوات الزينة ومن هنا عرفنا أن المرأة العراقية القديمة المسماة (تابوتي) هي أقدم شخصية بشرية تم توثيق توظيفها واستخدامها للكيمياء. عاشت هذه السيدة قبل حوالي 3200 سنة وعملت في البلاط الملكي في أرض الرافدين في مملكة بابل حيث كانت تُحضر العطور من الزهور والزيت. في الألواح الفخارية والمنقوشة بالكتابة المسمارية لسنا فقط نجد اسم السيدة تابوتي والموصوفة بأنها (بيلاتكاليم) أي المشرفة الملكية على شؤون قصر الملك البابلي، ولكن أيضا نجد إشارات لاستخدامها لجهاز التقطير الكيميائي لفصل الروائح العطرية. وهذه الإشارة لجهاز التقطير تعتبر أقدم نص وثائقي في تاريخ البشرية عن هذا الجهاز العلمي بالغ الأهمية.

لا تعارض على الإطلاق بين أنوثة المرأة ورعايتها لأسرتها المنزلية، كما إن هذه الأدوار النسائية الاعتيادية قد تكون في نفس الوقت وسيلة لتحقيق المرأة لذاتها وشخصيتها بطريقة لا تخطر على البال حتى ولو في أعقد مجالات البحث العلمي المتقدم.

د/ أحمد بن حامد الغامدي

جامعة الملك سعود – الرياض- المملكة العربية السعودية

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى