الحكيم

مارغريت سانجر.. صاحب “الإرث المتضارب” و”أم وسائل تحديد النسل”

في أوائل القرن العشرين، في الوقت الذي لم يتم فيه التحدث عن الأمور المتعلقة بتنظيم الأسرة أو الرعاية الصحية للمرأة في الأماكن العامة، أسست الناشطة, “مارجريت سانجر” حركة “تحديد النسل” وأصبحت مدافعة صريحة عن الحقوق الإنجابية للمرأة. في حياتها اللاحقة، قادت سانجر الجهود التي أسفرت عن حبوب منع الحمل الحديثة بحلول عام 1960.

مولد مارغريت سانجر

مارغريت سانجر, من مواليد 14 سبتمبر 1879، في كورنينغ، نيويورك، ترتيبها السادس من بين أحد عشر طفلاً. تأثر مسار حياة سانغر بفقر طفولتها ووفاة والدتها في سن الخمسين، وهو ما أدركته سانجر نتيجة الخسائر المادية لإحدى عشرة حالة حمل. أصبحت سانجر لاحقًا ممرضة، حيث التحقت بكلية كلافيراك ومعهد نهر هدسون في عام 1896 وأكملت برنامج التمريض في مستشفى وايت بلينز في عام 1902. وفي ذلك العام تزوجت ويليام سانجر، وهو مهندس معماري، وانتقلت إلى هاستينغز، نيويورك، حيث أنجب الزوجان ثلاثة الأطفال.

مارغريت سانجر وأول عيادة لتحديد النسل

في نيويورك عام 1916م ظهر الإعلان التالي، وكان حول أول عيادة لتحديد النسل في الولايات المتحدة، وقد أسستها مارغريت سانغر: (أيتها الأمهات! هل يمكنكن تحمل أعباء أسرة كبيرة؟ هل ترغبن بمزيد من الأطفال؟ إذا لم يكن كذلك، فلماذا تنجبنهم؟ لا تقتلن، لا تزهقن الحياة، وإنما امنعن الحمل. يمكن الحصول على معلومات حول طرق آمنة وغير مؤذية من الممرضات المدربات…).

مارغريت سانجر أم وسائل تحديد النسل

كانت وسائل منع الحمل حينها مثيرة للجدل وغير قانونية. وسرعان ما أغلقت العيادة وألقيت سانغر في السجن. ولكن عندما توفيت بعد خمسين عاما، كانت نتائج العمل الذي كرست له حياتها قد بدأت بالظهور في مجال تنظيم الأسرة في جميع أنحاء العالم.

ووصفها علماء ووسائل إعلام بأنها “أم وسائل تحديد النسل”، وإليها يعود الفضل في التوصل إلى أقراص منع الحمل.

مارغريت سانجر و”تيار “اليوجينيكس”

رغم أهمية أعمالها، لا تزال أساليب سانغر ودوافعها مثيرة للجدل، وقد أدى ارتباطها بتيار “اليوجينيكس”، أو ما يعرف بالتحكم في النسل بهدف تحسينه، إلى اتهامها بإمتلاك دوافع عنصرية.

كيف أدت هيمنة الرجال على الطب إلى إهمال صحة النساء وتعريضهن للخطر؟

لماذا قد تكون النساء السوداوات أكثر تأثرا بحظر الإجهاض في الولايات المتحدة؟

مارغريت سانجر.. الإرث المتضارب

تقول سانجام أهلواليا، أستاذة التاريخ ودراسات المرأة والجندر في جامعة أريزونا الشمالية، ومؤلفة كتاب “القيود الإنجابية: تحديد النسل في الهند 1877-1947″إن “إرث سانغر هو في الحقيقة إرث متضارب”.

وتضيف أهلواليا في حديثها مع راديو بي بي سي وورلد “أعتقد أن إلغاء شخصية مثل سانغر ينطوي على تبسيط شديد … يحتاج الأمر إلى قراءتها تاريخيا وبشكل نقدي”.

مارغريت سانجر.. والفقر المدقع

وُلدت سانغر عام 1879 في ولاية نيويورك، وهي السادسة بين 11 طفلا. كان والدها، مايكل، إيرلندي الأصل، ويعمل في مقلع حجارة. وكانت الأسرة فقيرة، وتعيش في كوخ. وقد حملت أمها 18 مرة، وأجهضت تلقائيا سبع مرات.

مارغريت سانجر والعمل بالتمريض

بدأت سانغر حياتها المهنية بالعمل ممرضة في مجال الرعاية النفسية، المخصصة لتخفيف معاناة المرضى المصابين بأمراض خطيرة ومعقدة، وهناك رأت امرأة تموت بسبب مضاعفات الحمل، وشهدت أيضا النتائج الخطيرة لعمليات الإجهاض السرية.

أمريكا وحبوب منع الحمل

تقول إيلين تايلر ماي، مؤلفة كتاب “أمريكا وحبوب منع الحمل: تاريخ الوعود، والمخاطر، والتحرير” وأستاذة الدراسات الأمريكية والتاريخ في جامعة مينيسوتا “كانت قوانين كومستوك سارية المفعول، وهي تحظر استخدام خدمات البريد لتوزيع وسائل منع الحمل أو أدوات لتحديد النسل أو معلومات عنهما. وكانت هناك أيضا قوانين ضد وسائل منع الحمل في العديد من الولايات”.

النساء والتحكم الكامل في الحمل

وكانت القوانين التي يقف خلفها أنتوني كومستوك، صدرت في الولايات المتحدة عام 1873، وحظرت أيضا تداول وتوزيع أي معلومات عن الإجهاض، والجنس، والأمراض المنقولة جنسيا، إلى جانب منع نشر وتداول “الأدب الفاحش” و”المقالات غير الأخلاقية”.

وإضافة إلى الجانب القانوني، كان على سانغر أن تتعامل أيضا مع الكنيسة الكاثوليكية ذات السلطة القوية، والتي كانت تعتبر استخدام وسائل منع الحمل “إثماً”.

حبوب منع العمل والثورة الاقتصادية

في مارس/آذار عام 1914، أصدرت سانغر كتابها “المرأة المتمردة”، الذي دافعت فيه عن حق المرأة في تحديد النسل. وسرعان ما أصبح الكتاب قضية قانونية، ووضع مؤلفته في مواجهة محاسبة. ولكي تتجنب احتمال سجنها، غادرت سانغر إلى بريطانيا على متن سفينة.

تأثرت سانغر خلال إقامتها في بريطانيا بأفكار توماس روبرت مالتوس، الذي حذر من أن الموارد الغذائية على كوكب الأرض، لن تكون كافية في حال استمرار النمو السكاني من دون ضوابط، وأوصى بضبط النفس وتأجيل الزواج.

وفي ذلك الوقت، كان ناشطون مؤمنون بأفكاره، وهم الذين يعرفون باسم “المالتوسيون الجدد”، يضغطون من أجل ترويج سبل منع الحمل.

الدكتورة كارولين رسترهولز، المختصة بالتاريخ في جامعة كامبريدج، وخاصة في مجال السكان والطب والجنس، تقول إن سانغر “بدأت أيضا في تطوير مقاربة أخرى، مفادها أن تحديد النسل هو الوسيلة للحفاظ على السلام وتجنب النقص في الغذاء”.

أول عيادة لتحديد النسل

غادرت سانغر منفاها الاختياري، وعادت إلى الولايات المتحدة. وافتتحت أول عيادة لتحديد النسل في البلاد في منطقة من مدينة نيويورك تقطنها غالبية من الفقراء والمهاجرين.

وداهمت الشرطة العيادة بعد أيام قليلة فقط من افتتاحها، وألقي القبض على سانغر.

لكنها لم تتوانى عن إعادة فتح العيادة بعد أيام قليلة، واعتقلت مرة أخرى بتهمة التسبب في ضرر عام.

محاكمة سانغر

وحوكمت سانغر عام 1917 في قضية أثارت ضجة هائلة، وأدينت، وحكم عليها بالسجن 30 يوما أو دفع غرامة، فاختارت السجن، وهناك كانت تقدم للسجينات معلومات عن تحديد النسل.

تقول إلين تشيسلر، كاتبة سيرة سانغر “أصبحت سانغر بسبب تلك الحادثة شخصية مشهورة على نطاق واسع في الولايات المتحدة. وكانت أختها أيضا في السجن، وقد قامت بالإضراب عن الطعام”.

بعد إطلاق سراحها، رفعت سانغر طلب اسئناف ضد إدانتها، لكنه رفض، إلا أن المحكمة قضت بأنه يمكن للأطباء وصف وسائل منع الحمل لأسباب صحية.

مأساة شخصية

في خضم معاركها القانونية، كانت سانغر تواجه اضطرابات في حياتها الشخصية، وانفصلت عن زوجها عام 1914، وفي العام التالي توفيت ابنتها الوحيدة فجأة وهي في الخامسة من عمرها.

دخلت سانغر في علاقات مع العديد من الرجال، ومن ضمنهم عالم النفس المختص بالسلوك الجنسي هافلوك إليس، والكاتب هربرت جورج ويلز مؤلف رواية “آلة الزمن”.

وفي عام 1922، تزوجت رجل الأعمال وقطب النفط جيمس نوح سلي، الذي أصبح أحد الممولين الرئيسيين لحملتها.

تحسين النسل

سعت سانغر إلى الحصول على دعم أوسع لحملتها، وانضمت إلى الجماعات التي كانت تدعو إلى تحديد النسل، وأسست ما يسمى بنظرية “اليوجينيكس”، أو علم التحكم في النسل بهدف “تحسينه”، وتعتبر هذه النظرية غير مقبولة نهائيا اليوم.

وتقول الدكتورة كارولين رسترهولز “لقد دخلت في شراكة مع دعاة اليوجينيكس… وحصلت على تمويل منهم”.

يُعرِّف المعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري نظرية اليوجينيكس بأنها “غير الدقيقة علميا إذ تدعي أنه يمكن تحسين البشر من خلال التكاثر الانتقائي للشعوب”.

ولم تكن تلك النظرية تواجه معارضة كبيرة خلال الفترة التي سبقت المحرقة التي ارتكبها النازيون.

وتضيف رسترهولز “لقد كانت سانغر تسعى فعلا إلى محاربة الفقر، لكنها أيدت بعض إجراءات تحسين النسل التي تنطوي على إشكالات (أخلاقية)، مثل تعقيم الأشخاص ذوي الإعاقة”.

وتقول كاتبة السير إلين تشيسلر إن سانغر كان لديها رأيها الخاص، وتوضح “كان علماء تحسين النسل التقليديون يعارضون تحديد النسل لدى نساء الطبقة الوسطى. وكانوا مهتمين بالتسلسل الهرمي المتعلق بالعرق واللون والطبقة الاجتماعية. لكنها لم تكن مثلهم. ما سعت إليه هو إنجاب عدد أقل من الأطفال بالنسبة لجميع النساء”.

“الأفقر والأسوأ بيولوجيا”

سافرت مارغريت سانغر حول العالم خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بهدف الترويج لتحديد النسل في الصين واليابان وكوريا والهند.

وقد ركزت في رسالة لها إلى جمعية اليوجينيكس في لندن، والتي مولت رحلتها إلى الهند عام 1935، على “توعية الفقراء والأسوأ بيولوجيا بتحديد النسل”.

وروجت لاستخدام مسحوق الرغوة المزدوجة (مسحوق مبيد النطاف) في الهند، لكنه أثار شكاوى كثيرة حول تسببه بإحساس حارق، وكان استخدامه صعبا من دون إشراف طبي.

وتقول سانجام أهلواليا “كان الخطاب قويا جدا بشأن تحديد النسل وإتاحة موانع الحمل، خاصة لفقراء الطبقة العاملة. لكن التقنيات لم تكن موجودة”.

والتقت سانغر بكبار الزعماء والشخصيات المؤثرة في الهند، مثل المهاتما غاندي، والشاعر روبندرونات طاغور الحائز على جائزة نوبل.

وبينما دعم طاغور فكرة تحديد النسل، كان غاندي يدعو إلى العزوبية وضبط النفس. وبذلت سانغر قصارى جهدها للتأثير على غاندي، لكنها لم تتمكن من تغيير رأيه.

أجبرت الحرب العالمية الثانية انصار اليوجينيكس على التراجع على جانبي المحيط الأطلسي. لكنها حصلت على زخم جديد بعد انتهاء الحرب، وتجدد المخاوف من انفجار سكاني.

“الحبة السحرية”

في ذلك الوقت تقريبا، بدأت سانغر، التي شعرت بالإحباط بسبب عدم عملية أو فاعلية وسائل منع الحمل المتوفرة مثل الغشاء المهبلي الحاجز، بالضغط من أجل التوصل إلى مانع حمل يؤخذ عن طريق الفم، رخيص وسهل الاستخدام.

وكتبت في عام 1939 عن حلمها في الحصول على “حبة سحرية”، ولكنها كانت بحاجة إلى مساعدة للانتقال من الفكرة إلى الواقع.

وكانت حليفتها الأساسية والأولى هي الناشطة المدافعة عن حقوق المرأة كاثرين ماكورميك، وهي أرملة غنية، وقد مولت الأبحاث لابتكار وسائل منع حمل هرمونية (أقراص منع الحمل)، وتمكنت من إقناع عالم الخصوبة والأحياء المثير للجدل الدكتور غريغوري بينكوس بالانضمام إلى المشروع.

قدمت ماكورميك في البداية 40 ألف دولار لتمويل الأبحاث، وازداد المبلغ لاحقا ليصل إلى أكثر من مليون دولار.

بعد عشر سنوات من العمل، أصبحت أقراص منع الحمل جاهزة، ولكن كانت هناك مشكلة تتعلق باختبارها وحصولها على مصادقة إدارة الغذاء والدواء، والتي اشترطت إجراء تجارب سريرية قبل منح موافقتها.

كان توزيع وسائل منع الحمل وإجراء أبحاث عليها لا يزالان يعتبران جريمة في الولايات المتحدة بموجب “قوانين كومستوك” في منتصف خمسينات القرن الماضي، لذلك ذهب الفريق إلى بورتوريكو وهايتي لإجراء الاختبارات هناك.

وأجريت الاختبارات على نساء الأحياء الفقيرة ونزيلات المصحات والملاجئ، والكثيرات منهن ربما لم يكن على دراية بطبيعة الحبوب التي تقدم لهن.

وتقول إيلين تايلر “بالطبع، حدثت انتهاكات. ليس هناك من شك في ذلك”.

وفي عام 1965، سمح في الولايات المتحدة للنساء المتزوجات باستخدام حبوب منع الحمل، ثم سمح بها لجميع النساء عام 1972.

وانضمت العديد من الدول إلى الولايات المتحدة بالسماح باستخدام حبوب منع الحمل. وقد أتيح لسانغر أن تشعر بالرضا، وهي ترى جهودها لتوفير حبوب منع الحمل تؤتي ثمارها قبل وفاتها عام 1966.

ارتبط اسم مارغريت سانغر بمزاعم ممارسة العنصرية على مدى عقود بخصوص مجال تحسين النسل، وبعملها مع الأمريكيين من أصول أفريقية.

كما أصبح مشروعها الذي يسمى بـ “مشروع الزنوج” ويهدف إلى نشر نصائح حول وسائل منع الحمل بين مجتمعات السود الفقيرة في جنوب الولايات المتحدة، فيما بعد مصدرا لجدل أثاره نشطاء سود، وثم في فترة لاحقة انتقده نشطاء مناهضون للإجهاض.

لكن سانغر في الوقت نفسه، كات وراء إرساء أسس خدمات الإجهاض والصحة الجنسية وتنظيم الأسرة في الولايات المتحدة.

وأصبحت حبوب منع الحمل أكثر وسائل تحديد النسل شيوعا في العالم، وهي تستخدم اليوم من قبل أكثر من 150 مليون امرأة في أنحاء العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى