الحكيم

لُقب بجراح استشاري الحضرة العلية السلطانية “”.. القصة الكاملة لرائد النهضة الطبية الحديثة في مصر؟ فيديو

صدق شاعر النيل “حافظ إبراهيم” عندما قال في رثائه لـ “علي إبراهيم باشا”:

هل رَأيْتُمْ مُوَفَّقًا (كَعَليٍّ)

في الأطِبّاءِ يَسْتَحِقُّ الثَّناءَ

أوَدَعَ اللهُ صَدْرَه حِكْمَةَ العِلْـ ـمِ

وأجْرَى على يَدَيْهِ الشِّفاءَ

كم نُفُوسٍ قد سَلَّها مِنْ يَدِ المَوْ تِ

 بلُطْفٍ منه وكَمْ سَلَّ داءَ

فأرانا (لُقْمانَ) في مِصْرَ حَيًّا

وحَبَانا لكلِّ داءٍ دَواءَ

حَفِظَ اللهُ مِبْضَعًا في يَدَيْه

قد أماتَ الأسَى وأحْيا الرَّجاءَ

هكذا تم تخليد اسم الطبيب المصري الأشهر “علي إبراهيم عطا” كأحد أهم رواد الطب في تاريخ مصر الحديث؛ وكأن عاشق النيل يرى في الطبيب عطاء النيل وعنفوانه ومآثره على الوطن والناس.

هو الباشا ابن الفلاح الذي نال هذا اللقب بعلمه وليس بميراثه، من ضيق الحال وفقره قطع طريقًا من العناء حتى ارتقى سماء العلم الواسع وحظي بثراء المعرفة والمكانة، فارتقى أعلى المناصب فكان بحق رائد النهضة الطبية الحديثة في مصر.

كلمة السر في كل هذا هي المرأة العظيمة “مبروكة خفاجي”؛ ابنة قرية مطوبس التي لم تتحجج بالظروف القاهرة؛ وتحدت العالم حتى أخرجت لنا هذا الرجل العظيم.

علي إبراهيم عطا (1880م-1947م) من أوائل الجراحين المصريين.

انتخب لعضوية مجلس النواب، واختير عميدًا لكلية الطب عام 1929 ليكون أول عميد مصري لكلية طب قصر العيني، وقد فتح علي باشا إبراهيم الباب أمام الفتيات المصريات لدراسة الطب.

وفي يناير 1930 ألّف الجمعية الطبية المصرية عقب اجتماع دعا إلى عقده وزملاؤه الذين أصدروا المجلة الطبية المصرية.

أسس علي باشا إبراهيم نقابة أطباء مصر عام 1940، وكان أول نقيب لأطباء مصر، وأسس مستشفى الجمعية الخيرية بالعجوزة.

في 28 يونيو 1940 عُيّن علي باشا إبراهيم وزيرًا للصحة في وزارة حسن صبري باشا، وفي سبتمبر 1941 (بعد خروجه من الوزارة مباشرة) عين مديرًا لجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا)، وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية.

ولد الطفل “علي إبراهيم” في الإسكندرية في 10 أكتوبر 1880م، وكان والده إبراهيم عطا فلاحًا من إحدى قرى مدينة مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، وأمه هي السيدة مبروكة خفاجي، وكانت أيضًا فلاحة.

دور الأم

حرصت أمه السيدة “مبروكة خفاجي” على تعليمه، وكانت قد تكفلت بتربيته، واضطرها ذلك إلى أن تعمل قابلة كي تكسب بعض المال لتقيم أودها وأود ولدها.

في يوليو سنة 1882م عندما ضرب الأسطول البريطاني مدينة الإسكندرية، هربت الوالدة مع طفلها (علي) إلى المزارع خارج الإسكندرية وعاشا في العراء عدة أيام، والغريب أنه مع صغر سنه في ذلك الوقت إلا أنه ظل دائمًا يذكر منظر الحرائق التي اندلعت في حيه والتي تركت انطباعًا عنيفًا وعميقًا في نفسه، ولعل هذا كان السبب الذي دعاه فيما بعد إلى تبني مبدأ عدم تدخل الأجانب في إدارة شؤون البلاد وكان منشأ وطنيته العارمة.

الانتقال إلى القاهرة

انتقل إلى القاهرة حيث تولته أسرة السمالوطي – وهي من الأسر الكبيرة – بالرعاية، فالتحق بالقسم الداخلي في المدرسة الخديوية بدرب الجماميز ليستكمل دراسته، ثم التحق بمدرسة طب قصر العيني عام 1897م وتخرج فيها عام 1901م.

ظل طيلة سنوات دراسته الثانوية الخمس مجدًّا في دراسته إلى أبعد الحدود، عاملًا على الاستزادة من أسرار العلوم، وقد راقته فروع العلوم الرياضية ولاقت في نفسه قبولًا واستحسانًا، وكان شغفه للمزيد من البحث والدراسة يجعله يستعير كتب مدرسة الطب التي تتحدث في بعض هذه العلوم بشيء من التفصيل، مما أتاح له فرصة أن يُكوِّن قاعدة أساسية في كلٍ من هذه العلوم، وحصل على المركز الثاني في البكالوريا سنة 1897.

جد واجتهاد

التحق علي إبراهيم بمدرسة الطب فأصبح طالبًا من الإثني عشر الذين ضمتهم دفعته، ومن الستة والعشرين الذين تقوم عليهم مدرسة الطب بسنواتها الست سنة 1897.

وكان عميد الكلية في ذلك الوقت الدكتور إبراهيم حسن، وعلى الرغم من أن مدرسة الطب كانت في ذلك الوقت تعاني الكثير من التدهور؛ فإن الطالب علي إبراهيم استغل قلة عدد الطلاب، وما ترتب على ذلك من جو مشجع على الدراسة والمناقشة والبحث ومراجعة الأساتذة والمعامل.

واستطاع أن يُحصِّل العلم خير تحصيل، وهكذا كان علي إبراهيم الطالب في جده واجتهاده، وظل طيلة الفترة التي قضاها في معاهد الدرس شخصية مرموقة بين الطلاب بعلمه وعمله وخلقه، ولم يكن في حاجة إلى بذل كل هذا الجهد للاحتفاظ بالأولوية، ولكنه كان يجتهد إلى الحد الذي جعله في مصاف الأساتذة وهو طالب.

وفي مدرسة الطب تعرف علي إبراهيم على العلامة المصري الكبير الدكتور عثمان غالب – وهو أول من كشف عن دورة حياة دودة القطن، كما أن له بحوثًا عالمية في علوم البيولوجيا – حيث تعلق به وصار يلازمه بعد انتهاء وقت الدراسة فيصحبه إلى بيته، ويقضي معه الساعات الطوال يتكشف دقائق أبحاثه وجلائل دراساته. كما تتلمذ علي إبراهيم على يد الدكتور محمد باشا الدري – شيخ الجراحين في الجيل السابق لعلي إبراهيم – كما أخذ عن الدكتور محمد علوي باشا – وهو أول الباحثين في أمراض العيون المتوطنة، وسيد الإكلينيكي فيها، وصاحب الفضل على الجامعة المصرية القديمة.

وفي السنة النهائية من كلية الطب عُيِّن علي إبراهيم مساعدًا للعالم الإنجليزي الدكتور سيمرس – وهو أستاذ الأمراض والميكروبات – وتقرر له راتب شهري عن وظيفته هذه، مما أكسبه خبرة وتدريبًا قل أن يتوافر لطالب، وبذا تكوّنت له في مرحلة مبكرة شخصية العالم الباحث المحقق.

وكانت سنوات الدراسة في مدرسة الطب حين التحق بها علي إبراهيم ست سنوات، ولكن الحكومة رأت أن تختصرها إلى أربع فقط، وطُبق هذا القرار في سنة تخرج علي إبراهيم حيث كان أول دفعته عام 1901.

وكان طالب الطب يتلقى آنذاك ثلاثة جنيهات شهريًا تشجيعًا له على مواصلة الدراسة، وعرفانًا من (علي) بفضل والدته، اعتاد أن يرسل الجنيهات الثلاثة إليها، أما هو فقد كان يتعيش بما يحصّله من قراءته للقرآن على المقابر في أيام الجمع.

استشاري الحضرة العلية السلطانية

تعددت بعد ذلك إنجازات علي إبراهيم الطبية، وكانت أولى العمليات الجراحية التي أجراها عملية استئصال كُلْيَة، وهي عملية كبيرة في ذلك الوقت إذا وضعنا في الاعتبار تخلف التجهيزات الطبية التي تحتاجها عملية من هذا النوع في ذلك الوقت، ثم أجرى عملية تفتيت حصوة في المثانة دون جراحة كبيرة، وكان ذلك أيضًا أسلوبًا غير معتاد في مثل هذا النوع من العمليات، وانطلقت شهرة علي إبراهيم في القطر المصري وانتقل هو من نجاح إلى آخر.

إلا أن الخطوة الكبرى في مسيرة “علي إبراهيم” الطبية، هي نجاحه في علاج السلطان حسين كامل من مرض عضال بإجراء عملية جراحية ناجحة له، أنعم السلطان عليه بعدها بلقب جراح استشاري الحضرة العلية السلطانية.

حكايته مع الكوليرا

وفي عام 1902م تفشى وباء غريب في قرية “موشا” بالقرب من أسيوط، وحينئذ عجزت مصلحة الصحة في ماهيّة هذا الوباء، وتم انتداب الدكتور علي إبراهيم للبحث عن سببه، وهنا ظهرت الفوائد العملية الحقيقية لدراسات علي إبراهيم المتعمقة؛ إذ لم يلبث فترة قصيرة حتى توصل إلى حقيقة الداء، وقرر أن الوباء هو الكوليرا الآسيوية، وتمكن أن يدرك أن مصدر هذا الوباء هو الحُجَّاج الذين حملوا معهم ميكروبه عند العودة من الحج، وبعث علي إبراهيم بقيء المرضى إلى مصلحة الصحة لتحليله، فردوا عليه بأن القيء خال من ميكروب الكوليرا، فلم يكن منه إلا أن أرسل إليهم مرة ثانية ليعيدوا تحليله، وكان قرار الطبيب الشاب موضع مناقشات طويلة، انتهت برجوح كفته، واستُجيب لمقترحاته في اتخاذ الاحتياطات اللازمة للمرض قبل تفشيه بالصورة الوبائية.

الوفاة

وفي أوائل سنة 1946م أخذت صحة “علي باشا إبراهيم” في الاعتلال، فكان كثيرًا ما يلزم بيته ويعتكف على عمله؛ فلما كان يوم الثلاثاء 28 يناير 1947م، تناول غداء خفيفًا، ثم أخلد إلى النوم حتى إذا كانت الساعة الخامسة أفاق من نومه وهنا صعدت روحه إلى بارئها، وفي اليوم الثاني خرجت جموع الشعب فأدت صلاة الجنازة على فقيدها العظيم خلف شيخ الأزهر حينئذ مصطفى عبد الرازق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى