مقالات

صائدو الموروثات السعوديون يحللون الحمض النووي ليمنعوا الأمراض النادرة

في غرفة اجتماعاتٍ بإحدى مستشفيات العاصمة السعودية، وقف مقَدمٌ بزيِ الجيش السعودي وقبعة الضباط السوداء ليحكي برزانةٍ قصة الأضرار الناتجة عن الأمراض الوراثية. حيث أن الطفلة الأولى له ولزوجته والتي ولدت في عام 2004مـ بدت طبيعيةً في البداية، لكنها لم تكن تستطيع الجلوس وكانت بالكاد تبكي عند بلوغها للستة أشهر. ولم يجد الأطباء في فرنسا أيّ تفسيرٍ، حيث كانوا يعيشون هناك وقتها. ويقول الأب: “كنا متأكدين أن نقص الأوكسجين عند ولادتها سبب ضرراً للدماغ”.

على الرغم من أن طفلهما الثاني كان ولداً سليماً، إلا أن طفلتهما الأُخرى والتي ولدت بعد 5 سنواتٍ عانت من أعراض تأخر النمو ذاتها. وفي هذه الأثناء أنجبت أُخت المُقَدم ستة أطفالٍ، كان اثنان منهم سليمين ولكن كان للأربعة الآخرين مشاكل طبيةٌ مشابهةٌ: كان لكلهم حولٌ في العينين، معدل ذكاءٍ تحت السبعين، لم يكونوا قادرين على الكلام، ولم يبدؤوا بالمشي حتى سن الخامسة.

تزوج كلاً من المُقَدم وأخته من أبناء عمومتهم من الدرجة الأولى والذين كانوا أقارب أيضاً، ولقد طلب ألا يتم الكشف عن هويته. وقادت الشكوك بأن صلة القرابة هذه تلعب دوراً في مشاكل أطفالهم بالعائلتين إلى عيادةٍ في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث تحت رعاية الدكتور فوزان الكريع، وهو عالم وراثةٍ سعوديٍ شاب عاد مؤخراً من الولايات المتحدة الأمريكية. وخرج الدكتور الكريع بالنتائج بعد عدة أشهرٍ من إعطائه عيناتٍ من الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين: كان كلّ الوالدين الأربعة يحملون نسخةً واحدةً من نفس الطفرة الوراثية، وهي طفرةٌ في قاعدةٍ واحدةٍ للحمض النووي في موروثةٍ تدعى إيه دي إيه تي 3. وعلى الرغم من أن الطفرة كانت غير ضارةٍ للوالدين لأن كل منهم احتفظ بنسخةٍ صالحة من الموروثة، إلا أن أطفالهم شديدي الإعاقة ورثوا عنهم نسختين معطوبتين. وكنتيجةٍ لذلك، لم تستطع خلاياهم أن تنتج الإنزيمات التي تساعد على تحويل الحمض النووي إلى بروتينات.

الخبر الذي حمله الكريع جلب معه نوعاً من الراحة للعائلتين وبعضاً من الأمل. حيث عقبَ المُقَدم قائلاً: “لقد كانت راحةً كبيرةً بالنسبة لزوجتي، لي، لأختي، وللجميع” أن نعلم ما الخطأ. فقرر المُقَدم وزوجته أن ينتقلوا للتلقيح الصناعي (أو أطفال الأنابيب) ويستخدموا التشخيص الوراثي قبل التلقيح لتحديد الأجنة التي لم ترث أيّ طفرةٍ وراثيةٍ في موروثة إيه دي إيه تي 3. ولديهم الآن توأمٌ بعمر سنتين، صبي وفتاة، ويقول المُقَدم أنهم “سليمين تماماً”.

عائلة المُقَدم هي واحدة من مئات العائلات التي قصدت الكريع ذو الـ39 عاماً، والذي قد يكون باحث علم الوراثة الرائد في البلاد. وعمله جزءٌ من القفزة الحاصلة في أبحاث علم الوراثة البشرية في السعودية خلال العقد السابق، والتي بلغت ذروتها في النسخة السعودية من مشروع الجينوم والمسمى بـ “البرنامج السعودي للجينوم البشري”. وتعاني المملكة العربية السعودية كباقي الدول في الشرق الأوسط من معدلٍ متزايدٍ من الأمراض الوراثية الموروثة، والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أن العديد من العرب يتزوجون من أقاربهم من الدرجة الأولى أو من أقاربهم الآخرين. فحسب بعض التقديرات، يقدر معدل الأمراض الوراثية الموروثة في المملكة بضعف المعدل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر بـ10 مراتٍ في اضطراباتٍ معينةٍ أُخرى. وكنتيجةٍ لذلك، لطالما جذبت الدولة علماء غربيين طموحين لاصطياد أمراض الموروثات جديدة للعلم. ولكن الكريع وغيره من علماء الوراثة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث جلبوا هذه الأبحاث لموطنهم.

مشاكل الزواج

تمتلك السعودية أحد أعلى معدلات الزواج بين الأقارب في العالم بفضل الثقافة التي تشجع على الزواج بين الأقارب من الدرجة الأولى، مما أدى إلى رفع معدلات الأمراض الوراثية الموروثة.

يستخدم السعوديون تقنياتٍ رخيصةٍ لمسح تسلسل الحمض النووي من الجيل الجديد لتحديد الطفرات التي تسبب أمراضاً غير مبررةٍ، وذلك للبحث في أكثر من 10 آلاف حالةٍ خلال الخمس سنوات السابقة. وعلى الرغم من أن أغلب الحالات التي حُلت تتضمن طفراتٍ وراثيةٍ معروفةٍ، إلا أن بعضها أظهر أمراض موروثاتٍ جديدةٍ (أكثر من 200 موروثةٍ اكتشفتها مجموعة الكريع وحدها، ومن ضمنها موروثة إيه دي إيه تي 3). وتضاهي النتائج التي اكتشفها هذا الفريق الصغير نسبياً نتائج مجموعات صائدي أمراض الموروثات الأكبر في الولايات المتحدة وأوروبا، كما يقول زملاء العمل. حيث قال عالم الوراثة البشرية في المركز الطبي في جامعة رودبود في مدينة نايميخن بهولندا يوريس فيلتمان: “أنا منبهرٌ بما حققه [الكريع] في السعودية”.

يأمل الكريع وزملائه أن الفهرس المتنامي من أمراض الطفرات التي اكتشفوها لن يساعد العائلات ذات الأمراض الوراثية على إنجاب أطفالٍ سليمين فحسب، بل أنه سيؤدي إلى عمل فحوصٍ ما قبل الزواج للحمض النووي للشباب، مما سيساعد في خفض المعدل العالي لهذه الأمراض هنا. وقد يكون لهذه الجهود الواسعة لمسح التسلسل الوراثي مردودٌ خارج الشرق الأوسط أيضاً. فالعلاقات المتقاربة للكتلة السكانية السعودية تجعل من السهل التعرف على “التعطيلات السليمة*”، وهم الأشخاص الذين يفتقرون إلى النسختين من موروثةٍ محددة ولكنهم يبقون سليمين ويحصلون على حمايةٍ من مرض ما، فيوفرون مفاتيحاً لإنتاج عقاقير جديدة. ويقول الكريع: “إذا كان هناك مكانٌ لاكتشافهم، فهو هنا”.

لكن قبل ذلك، سيكون على علماء الوراثة السعوديون أن يتخطوا أزمة الميزانية المتفاقمة هنا والناجمة عن الانخفاض العالمي في سعر النفط. حيث تم تعليق تمويل المرحلة القادمة لكل مشروع الجينوم، وحتى أن المنح الخاصة بالمشاريع البحثية الحالية تم خفضها هذا العام، بما فيها مشروع الكريع. ويقول المراقبون أنه من المهم ألا يتوقف مشروعه لتعقب الموروثات وباقي الجهود في علم الوراثة، فكما يشير عالم الوراثة البشرية من معهد برود في كامبريدج بولاية ماساشوستس دانيال ماك أرثر: “لا يوجد أي شكٌ بأن الفرص هناك مهولةٌ”.

عندما تصطدم الثقافة بالحمض النووي

خارج جناح البحث الخاص بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث وفي الشوارع المزدحمة هنا، لا يمكن للنساء الاختلاط مع الرجال الغرباء عنهم ويجب عليهم ارتداء عباءةٍ سوداء فضفاضةً تُسمى بالعباية. ولكن في هذه المساحة المفاجئة والمتنوعة ثقافياً تستبدل النساء عبائاتهن بمعاطف المختبر ويعملون جنباً إلى جنب مع العاملين الذكور، وتخلع بعضهن الحجاب، ولكن البعض الأخر تبقي غطاء وجهها الأسود المعروف بالنقاب حتى داخل المعمل.

هذا التمسك بالتقاليد يفسر السبب وراء أن 40% أو أكثر من السعوديين الأصليين لا زالوا يتزوجون من أقاربهم من الدرجة الأولى أو أقاربهم الآخرون، أي ما يعادل ثلثي سكان المملكة البالغ عددهم 30 مليوناً. وهذه الممارسة التي كانت شائعة في أوروبا سابقاً لا زالت موجودةً في معظم مناطق الشرق الأوسط حتى اليوم، وهي تساعد في الحفاظ على الثروة والعلاقات القبلية. ولكن الجانب السلبي من زواج الأقارب هو الخطر المرتفع نسبياً للأمراض الوراثية الناتجة عن الموروثات المتنحية، والتي تتطور حين تكون النسخ من كلاً من الموروثة الأبوية والأموية معيوبةً. فإذا كان كلاً من الوالدين يحمل نفس الطفرة الوراثية المتنحية فهناك احتمالية بنسبة 25% أن يرث أطفالهم نسختين منه ويطوروا المرض، وتتوالى المخاطرة الوراثية مراراً وتكراراً في العائلات الكبيرة الشائعة في السعودية. فبحسب أحد التقديرات، يُولد 8% من الأطفال في السعودية مع مرضٍ وراثيٍ كاملٍ أو جزئيٍ، مقارنة مع نسبة 5% في باقي الدول ذات الدخل المرتفع.

غالباً ما تكون الأمراض لم تُر من قبل، ولهذا تُرك الأطباء في الشرق الأوسط في حيرةٍ من أمرهم بسبب هذه الأمراض واستدعوا علماء أوروبيين أو أمريكيين لعقودٍ من الزمن، والذين بدورهم قاموا بجمع عيناتٍ من الحمض النووي من العائلات المتضررة وحصلوا على رئاسة تأليف الأوراق البحثية التي تصف موروثات الأمراض الجديدة. وبعد كشف النقاب عن مسودة مشروع الجينوم البشري في 2001مـ، جذب هذا الشعب المتجانس وراثياً جهوداً أوسع في علم الوراثة، حيث أنه يتكوّن من حوالي أربعة وعشرين قبيلة رئيسيةٍ منحدرةٍ من عددٍ صغيٍر من المؤسسين. ويتذكر العالم الأسترالي المغترب براين ماير الذي عمل لوقت طويل في السعودية والذي يترأس الآن قسم علم الوراثة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث اقتراحاً من رائد تخطيط الجينوم كريغ فينتر لإطلاق شركةٍ على غرار شركة دي كود الأيسلندية، والتي كانت ستنقب في الحمض النووي للسعوديين بهدف العثور على أهدافٍ للعقاقير، ولكن الخطة فشلت بسبب المخاوف المحلية بشأن الخصوصية وتصدير البيانات الوراثية لأغراضٍ تجاريةٍ.

قال ماير: “لم يكن السكان مستعدين لذلك”. كذلك امتنعت السعودية أيضاً عن المساهمة بعيناتٍ من الحمض النووي لهاب ماب، وهي محاولةٌ دوليةٌ بدأت في 2002مـ لرسم خريطةٍ للتنوع الوراثي البشري. ولا يزال الشرق أوسطيين مفقودين تقريباً من قاعدة البيانات المرجعية الخاصة بمشروع الجينوم البشري، وهي مشكلةٌ يحاول بعض العلماء العرب الآن معالجتها. ولكن في أواخر التسعينيات، بدأت بذور مشروع جينوم سعودي تترسخ. وبدأ علماء الوراثة التابعين لمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالقيام بعملية صيد موروثات الأمراض الخاصة بهم بعد أن اكتشفوا أن الطفرة الوراثية التي تسبب التليف الكيسي في السعودية مختلفةٌ عن تلك الموجودة في أوروبا، وانضم الكريع لعملية الاصطياد هذه بعد ذلك بقليل.

كطالب طبٍ بارزٍ من مدينةٍ صغيرةٍ في شمال السعودية، يقول الكريع أنه أدرك أن الأمراض الوراثية في البلاد تعد “مشكلةً كبيرةً”، وفرصةً لا مثيل لها للقيام بالبحوث. فبعد أن تلقى التدريب في الولايات المتحدة في قسم طب الأطفال وعلم الوراثة الطبية، أكمل مرحلة ما بعد الدكتوراه في مجال علم الوراثة النمائي في مستشفى بريجهام آند ومنز التابع لجامعة هارفرد في بوسطن وأصبح المؤلف الرئيسي لورقةٍ بحثيةٍ نشرت في دورية ساينس حول موروثةٍ تتحكم في تكوّن الصفائح الدموية.

كان بإمكان الكريع أن يجد منصباً ضمن أعضاء هيئة تدريسٍ في الولايات المتحدة، وأن يسافر للسعودية لجمع عينات للأمراض، لكنه كان قلقاً من أنه: “سأشعر بأني شخصٌ انتهازي”. في العام 2007مـ، عاد الكريع إلى السعودية لبدء مجموعته البحثية الخاصة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث وفي جامعة الفيصل المجاورة. وهو بالفعل واعٍ لما يفتقر إليه مقارنة ببوسطن: ففي الرياض، لا يوجد حوله خبراء عالميون ليتبادل معهم الأفكار، ويواجه تأخيراتٍ طويلةٍ في الحصول على المواد الكيميائية كالأجسام المضادة. ولهذا يقوم بالعمل على عدة مشاريع ليبقي نفسه منتجاً، حيث نشر أكثر من 270 ورقة بحثية منذ عودته. وكما يقول: “أنت بحاجة إلى التنبؤ بكل شيءٍ في وقتٍ مبكرٍ”.

في خلال عملية صيده للموروثات، قام الكريع بالاستفادة من عملية مختصرةٍ تدعى مسح تسلسل الأكسوم، والتي تحلل 1% فحسب من الحمض النووي للجينوم الذي يُشفر البروتين. فبدلاً عن مسح الجينوم كاملاً من أجل العثور على موروثاتٍ متحولةٍ، يمكن لصياد الأمراض فحسب أن يقارن الإكسوم الخاص بطفلٍ مريض مع إكسومٍ أو اثنينٍ من تلك الخاصة بأشخاصٍ سليمين وصحيين، مثل والديّ الطفل، وهي عمليةٌ تأخذ أسابيعاً بدلاً عن سنين. ولقد استخدم فريق الكريع في 2001مـ استراتيجية الإكسوم تلك لأول مرةٍ للعثور على موروثة مرضٍ جديدٍ: دي أو سي كاي 6، والتي تسبب تشوه الأطراف عندما تحدث طفرةٌ فيها.

ازدادت وتيرة عمل الفريق عندما أعلنت السعودية قبل ثلاث سنوات خططها لمشروع الجينوم لـ 100 ألف شخصٍ، وذلك على غرار جهودٍ في دولٍ كالمملكة المتحدة وأيسلندا. إذ قرر القادة السعوديون التركيز على مشروعٍ تجريبيٍ بقيمة 40 مليون دولار قائمٍ على تشخيص المرضى الذين يعانون من أمراض بموروثةٍ واحدةٍ، والذي يتم تعيينهم من قبل الأطباء في المؤسسات البحثية السعودية. ويعقب الباحث الرئيسي في المشروع والمدير التنفيذي لمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث سلطان السديري قائلاً: “لقد تبين أن هذا قرارٌ حكيم”.

يستخدم فريق مشروع الجينوم السعودي طريقتين مختصرتين للعثور على الطفرات المسؤولة. ففي إحداهما، يحلل مشروع الجينوم الموروثات التي يُرجح أنها مرتبطةٌ بالحالة فقط بدلاً من مسح التسلسل الكامل لإكسومات المريض، فمثلاً: في حالة التشوهات الوجهية، سيحلل الفريق الموروثات المرتبطة فعلاً بتشوهات الوجه. ولقد جمع المشروع فريقاً من حوالي 90 شخصاً من علماء الوراثة، الأطباء، وغيرهم، والذين أنشأوا 13 لوحةً لمورثات الأمراض المعروفة لحالاتٍ مثل الصمم، فقدان البصر، أمراض القلب، والاضطرابات الأيضية.

ذكر برنامج الجينوم البشري السعودي في دورية “علم الأحياء للجينوم” العام الماضي أن هذه المقاربة “المندليومية” (وهي الطفرات الخاضعة لقوانين الوراثة المندلية*) تمكنت من تشخيص ٤٣٪ من ٢٣٥٧ حالةٍ، وبتكلفةٍ تقارب ٧٥ إلى ١٥٠ دولارٍ للشخص في خلال بضعة أيامٍ. ولقد أبهرت نسبة النجاح هذه المراقبين نظراً لكونها مستندةً على نهجٍ مخفضٍ للسعر (كما تمكن الفريق من حل ١١٪ أخرى باستخدام مسح تسلسل الإكسوم الأعلى تكلفةً). وعلى الرغم من أن علماء الوراثة السريرية في بلدانٍ أخرى بدأوا باستخدام لوحات الموروثات قبل التحول إلى استخدام تسلسل الاكسوم، إلا أن المختص بعلم الوراثة من كلية بايلور للطب في هيوستن جيمس لوبسكي يقول: “لم يفعلها أحد بصورةٍ مُمنهجةٍ كما فعلوا في الرياض”. وأضاف: “أعتقد أنه بإمكاننا تعلم أمورٍ منهم”.

إذا لم تحدد الاستراتيجية المندليومية الطفرة المسؤولة بدقةٍ فبإمكان الفريق محاولة الاستفادة من الاختصار الثاني أيضاً. فعندما يطور طفلٌ ناتجٌ عن زواج الأقارب مرضاً وراثياً متنحياً، تقع الطفرة المسؤولة عادةً داخل كتلةٍ مطابقةٍ أكبر من الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين موروثةٍ من كلا الوالدين. بالتالي يمكن للباحثين تجاهل معظم إكسومات الطفل والبحث عن الطفرة المخطئة عن طريق فحص هذه المناطق الأبوية المشتركة فقط، التي يجدونها عن طريق مسح الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين لعلاماتٍ معروفةٍ. ويقول الكريع: “يعطينا هذا رؤية خارقةً، حيث ستعرف تماماً أين تبحث”.

الكشف عن الموروثات

بالإضافة إلى المردود العملي لتشخيص الأمراض الوراثية، الفريق السعودي متحمسٌ للعلم الذي ينتجنه. فمن بين أكثر من ٢٠٠ موروثةٍ مربوطةٍ حديثاً بالأمراض البشرية التي اكتشفها فريق الكريع، تسبب أحدها والمدعوة بـ”دي إن إيه إس إي 1 إل 3 شكلاً موروثاً من مرض الذئبة ويجرى متابعتها كهدفٍ علاجيٍ لاضطراب المناعة، ولقد وجد الفريق العشرات من المورثات الإضافية التي تسبب الإعاقة الفكرية، كما أن بعض المورثات الأخرى هي من ضمن المورثات الأولى التي تم تعريفها بأنها مميتةٌ في التطور الجنيني المبكر. ويُعد تحديد الطفرات المسببة لفشل الحمل المتكرر أمراً صعباً لأنه يتطلب الحصول على الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين من الجنين المٌجهض، ولكن الكريع سجل أمهات حوامل لديهم تاريخٌ من الإجهاض ويقوم بجمع عيناتٍ من النسيج الجنيني عندما تظهر عليهم علامات الإجهاض مرة أخرى.

يعترف الكريع بأن بعض العلاقات المنشورة بين الموروثات والمرض أوليةٌ، فغالباً لم يُعثر على الطفرة إلا في عائلةٍ واحدةٍ فقط حتى الآن، وهذا لا يقوم بالكثير من العمل الوظيفي اللازم لتحديد ما تفعله تلك الموروثات. حيث يقول الكريع: “إن فلسفتي دائماً هي الكشف عن الموروثات” وذلك لكي يستطيع أخصائي الوراثة الآخرين أن يكملوا العمل عليها. وتعتزم مجموعة مشروع الجينوم البشري السعودي أن تنشر قريباً قاعدة بياناتهم الكاملة لبيانات الجينوم البشري لأكثر من ١٠,٠٠٠ شخصٍ. وقد تتحدى بعض هذه البيانات روابط الأمراض الوراثية المعلنة سابقاً أيضاً. حيث ذكر الكريع أن المئات من المتغيرات الوراثية التي وُصفت بأنها ممرضةٌ في قواعد بياناتٍ أخرى متواجدةٌ وشائعةُ في السعوديين من دون وجود الأمراض المرتبطة بها، وذلك في ورقةٍ منشورةٍ في الشهر الماضي في دورية علم الأحياء للجينوم.

يرغب الباحثون أن يدرسوا في المرحلة التالية من برنامج الجينوم البشري السعودي الاضطرابات الشائعة مثل: أمراض القلب، السكري (حيث يصيب شكلٌ وراثيٌ نادرٌ من مرض السكري بعض السعوديين)، وتخصيص علاجاتٍ للسرطان بناءً على الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين للشخص. ويهدف الكريع أيضاً إلى استقطاب ما يصل إلى ١٠,٠٠٠ شخصٍ ممن يتلقون الرعاية الصحية في مستشفى الملك فيصل التخصصي على أمل العثور على تعطيلاتٍ سليمةٍ نادرٍ، وهي هديةٌ محتملةُ لمطوري العقاقير. فعلى سبيل المثال، قاد افتقار امرأةٌ من تكساس لموروثة “بي سي إس كاي 9” إلى ظهور فئةٍ جديدةٍ من العقاقير التي تقلل بشكلٍ كبيرٍ من الكوليسترول، وذلك عن طريق محاكاة تأثير ندرة الموروثة. إن رحلة الصيد ستكون أسهل في سكان السعودية ذوي القرابة، ويقول الكريع: “أنا متفائلٌ جداً أننا في طريقنا للعثور على شيءٍ مماثلٍ لـ بي سي إس كاي 9”.

لكن كل ذلك يعتمد على التمويل، فلقد وافقت الحكومة السعودية على تخصيص ٢٠٠ مليون دولارٍ من ضمن ميزانية وكالة العلوم الرئيسية للدولة وهي مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتمويل السنوات الخمس القادمة من برنامج الجينوم البشري السعودي، بما في ذلك شراء أحدث أجهزة تسلسل الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين التي يأمل الكريع أن يستخدمها. ولكن لم يتم استلام المال بعد وانخفضت التمويلات المتاحة هذا العام، وتم أيضاً تخفيض منح الكريع الخاصة بنسبة ٥٠٪، ولم يستطع مختبره أن يبدل معداته على مدى العامين الماضيين. ولكن الكريع يقول أنه ليس قلقاً كثيراً حول عمله العلمي حالياً، ويصرح: “أنني أمتلك الكثير من البيانات. حيث يمكنني أن أستمر في كتابة الأوراق البحثية لثلاث سنواتٍ مقبلةٍ لو أغلقت مختبري الآن”.

جهود الفحص الوطنية

في حين تتباطأ بحوث علم الجينوم، بدأ ما تم تعلمه حتى الآن بتقديم الفائدة للعوائل السعودية. فغالباً ما يكون هناك القليل للقيام به للأطفال الذين ورثوا أمراضاً متنحيةً، ولكن المعرفة الوراثية هذه يمكن أن تنقذ أطفال المستقبل من نتائج مماثلةٍ. فبالإضافة إلى اختيار أجنةٍ ملقحةٍ اصطناعياً (أطفال الأنابيب) من دون الطفرات الممرضة، يمكن للوالدين السعوديين المحتملين أن يشخصوا الحالة قبل الولادة أيضاً إذا كانت الزوجة حامل فعلاً (حيث يسمح القانون الإسلامي بالإجهاض لإنقاذ حياة الأم، ورجال الدين في المملكة العربية السعودية أفتوا بأن هذا ينطبق أيضا قبل إتمام 120 يوماً من الحمل إذا كان من المحتمل أن يكون الجنين مشوهاً بشدةٍ).

لقد جاءت حوالي 80 عائلةٍ سنوياً لمختبر التشخيص قبل الولادة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث للفحص الوراثي قبل خمس سنوات. أما الآن، تسعى حوالي 500 أسرةٍ سنوياً للفحص، فتم نتيجةً لذلك إنهاء ما يصل إلى 125 حالة حملٍ لأن الأطفال كانوا سيولدون بأمراضٍ خطيرةٍ أو مميتةٍ. وتقول اختصاصية علم الوراثة ورئيسة مختبر فحوصات ما قبل الولادة فائقة امتياز: “لقد قمنا بإزالة عبءٍ اقتصاديٍ كبيرٍ عن الدولة”.

يرغب فريق مشروع الجينوم السعودي في النهاية أن يفحص كل الأزواج السعوديين الذين يخططون للزواج والبالغ عددهم ١٥٠,٠٠٠ كلّ عامٍ بحثاً عن موروثات الأمراض. وتطلب وزارة الصحة حالياً من كلّ الأزواج إجراء تحليلٍ حيوكيميائيٍ للدم بحثاً عن علامات فقر الدم المنجلي والثلاسيميا (فقر الدم البحر المتوسط*)، وهما مرضان وراثيان شائعان هنا. ويقول ماير: “يمكن لنفس العينة أن تستخدم لآلاف الأمراض” إذا تم اختبار الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين بدلاً من ذلك. ويضيف أن المرحلة المقبلة لبرنامج الجينوم البشري السعودي تتضمن خطةً للبدء في استخدام جهازٍ من نوعٍ خاصٍ شبيهٍ بالرقاقة لفحص عيناتٍ من الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين للأزواج بحثاً عن أكثر ٢٣٠٠ طفرةً شائعةً في الشعب السعودي، ويُعرف الجهاز باسم نظام عرض النمط الوراثي.

يقول الكريع أن الفحص المبكر في المدرسة الثانوية قبل أن يتم ترتيب الزواج أو ارتباط زوجين عاطفيا قد يكون أكثر فعاليةً. ويضيف زميله الباحث البولندي المغترب دوروتا مونيس الذي عاش في الرياض لأكثر من عقدٍ من الزمن ومدير جهاز تسلسل الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين لمشروع الجينوم: “لا نستطيع تغيير الثقافة، ولكن عبر الفحص والوقاية فقط يمكننا أن نساعد الناس”.

يقول اخصائي علم الوراثة في مستشفى رادي للأطفال في سان دييغو بولاية كاليفورنيا ستيفن كينقزمور أن مثل هذا الفحص الوطني الإلزامي للعديد من الأمراض الوراثية “سيكون بلا مثيلٍ من حيث الحجم”. كما إن الدولة بحاجةٍ أيضاً إلى توسيع كادرها من مستشاري علم الوراثة، حيث أن لديها الآن تسعةٌ فقط. ويقول مستشار علم الوراثة في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث ومستشار برنامج وزارة الصحة الحالي لفحص ما قبل الزواج أيمن السليمان: “إذا قدمت لهم المشورة الطبية السليمة في العيادة فسيدركون الموقف وسيوقفون الزواج. ولكنهم لن يستمعوا لذلك في حال عدم وجود المشورة السليمة”.

في الوقت الحالي، يشجع الفريق السعودي الآباء الذين لديهم طفلٌ يعاني من اضطرابٍ وراثيٍ أن يفحصوا أسرتهم القريبة والممتدة، وذلك للتقليل من مخاطر الولادات المستقبلية. وتقول المستشارة في أبحاث علم الوراثة في مدينة الملك عبد العزيز شذى الرشيد أن هذه قد تكون مسألةً حساسةً، فقد تشعر الأم بالقلق من أن يتزوج زوجها بامرأةٍ ثانيةٍ إذا علم أن كلاهما يحمل مُوَرِّوثةً مرضيةً، أو قد تخشى الأسر من أن أبناءهم وبناتهم لن يتزوجوا. ولكن غالبية الأسر تقوم بمشاركة المعلومات في النهاية: “أشعر أن قصص النجاح أكثر انتشاراً من تلك السلبية”.

نشأ الطبيب المقيم البالغ من العمر ٢٧ عاماً محمد الصامل في مدينة جدة بالسعودية مع ثلاثةٍ من إخوته المصابين بإعاقاتٍ شديدةٍ بسبب طفراتٍ تم التعرف عليها في مختبر الكريع. وبعد أن تم تشخيصهم، وافق الصامل على اختبار حمضه النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين، فعرف أنه حاملٌ لنفس الخلل الوراثي. ويتم حالياً فحص خطيبته أيضاً على الرغم من أن الاثنين ليسا أقرباء ومن غير المرجح أن تمتلك الطفرة. ويقول الصامل أنهم ما زالوا سيتزوجون حتى إذا كانت تحمل الطفرة، ولكنهم سيأخذون بعين الاعتبار حلولاً أخرى مثل التلقيح الاصطناعي (أطفال الأنابيب) لتجنب إنجاب طفلٍ مريضٍ. ويقول: “لم يكن لدي إخوةٌ أو أخواتٌ أصحاء للعب معي، وكان علينا البقاء في المستشفى لفتراتٍ طويلةٍ”. ويضيف: “لا أريد أن يكون لأطفالي نفس الذكريات. لا يمكنك أن تتخيل ذلك”.

كتابة: جوسلين كايزر.

ترجمة: فاطمة محمد وأبرار الرحيلي.

مراجعة: فارس بوخمسين.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى