نابغون

كاتسوهيكو وشيجياتسو.. عندما يجتمع العلم والخبرة مع الحكمة اليابانية القديمة

يقول المثل الياباني القديم “إذا كنت تريد صيد سمكة.. ازرع شجرة”، وقد يمر أبناء الثقافات المختلفة اليوم على حكمهم وأمثالهم القديمة مرور الكرام، معتزين بما اكتسبوه من علوم وخبرات حديثة، مستكبرين على كل “قديم”، لكن الحال في قصة هذين البطلين اليابانيين مختلفة، فقد تحول علمهم وخبرتهم إلى أكبر داعم للحكمة القديمة.

“كاتسوهيكو” و”ماتسوناجا”.. وحل معضلة مصايد الأسماك

البطل الأول لقصتنا هو عالم الكيمياء البحرية الياباني كاتسوهيكو ماتسوناجا Katsuhiko Matsunaga والذي كرس حياته العلمية في جامعة هوكايدو اليابانية لحل معضلة علمية وعملية تخص مصايد الأسماك في اليابان، فخلال عمله لاحظ كاتسوهيكو انهيار النظم البيئية البحرية على طول سواحل اليابان، مما أدى لانهيار مخزون الأسماك، ومن ثم كرس هذا العالم الياباني وفريقه وقته للبحث عن سر اختفاء الأسماك وتضرر النظام البيئي البحري، وقد توصل نتيجة لبحثه إلى أن الانخفاض في غابات الأشجار خاصة ذات الأوراق العريضة على طول الأنهار التي تصب في المحيط بسبب القطع الجائر أدى إلى فقدان حمض الفولفيك fulvic acid. وهو الحمض الضروري للنباتات البحرية لتكون قادرة على امتصاص الحديد مما يتيح نمو الأطعمة البحرية الأساسية مثل العوالق النباتية.

ففي مقال له نشر عام 2002، أن هناك علاقة متبادلة بين الحديد المتوفر بيولوجيا في النظام البيئي البحري، ونمو العوالق النباتية متعددة الأنواع. وهذه العوالق النباتية هي أساس شبكات الغذاء البحرية، فهم المنتجون الأساسيون، الذين يحولون ضوء الشمس إلى طاقة، وهم يزودون العوالق الحيوانية والأسماك بالغذاء والطاقة لتمريرها عبر السلسلة الغذائية.

وقد أشارت الأبحاث السابقة التي أجراها كاتسوهيكو إلى أن نوع الحديد المتوفر بيولوجيا كي يتواجد في البيئة البحرية، فإنه يولد أولا من تربة الغابات الموجودة في مستجمعات الأنهار ويرتبط ارتباطا وثيقا بها. فالمركبات والأحماض الدبالية التي تتشكل عندما تتحلل فضلات الأوراق ترتبط بالحديد في التربة وتندفع في الأنهار، ثم تنتقل إلى البحار والمحيطات.

ومن ثم يوفر هذا الحديد المتوفر بيولوجيا الاحتياج الضروري للحياة والسلسلة الغذائية في البحار والمحيطات، وهو الحديد المنخفض بشكل طبيعي في البيئة البحرية في الشكل الذي يمكن أن تستخدمه العوالق النباتية.

كاتسوهيكو وشيجياتسو.. عندما يجتمع العلم والخبرة مع الحكمة اليابانية القديمة
كاتسوهيكو وشيجياتسو.. عندما يجتمع العلم والخبرة مع الحكمة اليابانية القديمة

عوالق المد البحري

وهنا يأتي دور بطل القصة الآخر الصياد الياباني شيجياتسو هاتاكياما Shigeatsu Hatakeyama الذي وصلته نتائج أبحاث كاتسوهيكو، وكان قد ورث مزرعة للمحار من والديه. لكن المياه في خليج كيسنوما في مياجي باليابان أصبحت غير مناسبة لزراعة المحار بعد انتشار عوالق المد الأحمر. وفي رحلة له إلى فرنسا في عام 1984، رأى شيجياتسو محارا بحالة صحية جيدة في مصب نهر لوار ولاحظ وجود غابة عريضة الأوراق في أعلى النهر، وبخلفية أبحاث كاتسوهيكو، وخبرته العملية أدرك شيجياتسو التأثير الإيجابي للغابات على بيئة المحيطات والتنوع البيولوجي.

كاتسوهيكو وشيجياتسو.. وحملة “الغابات عشاق البحر”

ومن ثم، وعندما عاد إلى اليابان قام بأول حملة تحت شعار (الغابات عشاق البحر) في عام 1989 مع صيادين آخرين، قام خلالها بزراعة أشجار عريضة الأوراق في أعلى مجرى نهر أوكاوا لتقليل تدفق الملوثات إلى البحر، وقد أدى عمله هذا إلى زيادة الإنتاجية حيث جنت العوالق النباتية ثمار الغابات المزروعة على طول الأنهار، والحديد الإضافي الحيوي الذي وفرته. والأهم من ذلك، أن هذه الزيادة في خصوبة مناطق الصيد الخاصة به لم تؤدي إلى زيادة المحاصيل فحسب، بل أدت أيضا إلى بناء قدرة مزرعة المحار الخاصة به والنظام البيئي الأوسع لمصب الأنهار.

كاتسوهيكو وشيجياتسو.. تطوير الغابات

وقد أصبحت أنشطة التشجير التي يقوم بها شيجياتسو حدثا سنويا، واكتسبت زخما منذ ذلك الحين، حتى وصل ما زرعه حتى عام 2017 إلى أكثر من 50 ألف شجرة. وقد أدى عمله إلى دوامات من التأثير وإلى خلق حركة لمحاكاة عمله على مستوى المنطقة للحفاظ على البيئة، بما في ذلك تنظيم مصارف المياه، وتعزيز الممارسات الزراعية باستخدام مواد كيميائية زراعية أقل.

وقد أمضى شيجياتسو أكثر من عشرين عاما في تطوير الغابة التي تحافظ على نظافة نهر أوكاوا وتحافظ على صحة محاره المزدهر، وفي عام 2009 أسس برنامج آخر للغابات هم عشاق البحر يوفر من خلاله تعليما عمليا للأطفال مما يجعلهم أقرب إلى المحيط والغابة. وقد حصل شيجياتسو هاتاكياما على “جائزة أبطال الغابة” Forest Heroes Award من لجنة الأمم المتحدة للسنة الدولية للغابات 2011.

ما توصل إليه كاتسوهيكو وشيجياتسو علما وعملا، وما قالته الحكمة اليابانية القديمة لا تقتصر جدواه فقط على اليابان، بل تتعداها إلى غيرها من البلدان، لتثبت ارتباط مكونات البيئة الطبيعية مع بعضها البعض، فما يسقط من أوراق الأشجار ويتحلل في التربة، وما تحمله مياه المصارف والترع والأنهار إلى البحار من أحماض وحديد (ذو مصدر طبيعي) يحمل الخير والازدهار للحياة في كلا من المياه العذبة في الأنهار وما فيها من كائنات، والبحار وما فيها من خيرات للبشر، ما تم اجتناب الكيميائيات من مخصبات ومبيدات وغيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى