مهن ابداعية

“رمسيس واصف”.. الرائد المعمارى المستكشف عن الأصول الحقيقية للعمارة المصرية

“رمسيس ويصا واصف” كان فى ريادته علامة، وكان فى فنه حكاية، وكان فى رؤيته عبقرة، وكان فى هندسته هندسة.. اشترك مع المهندس حسن فتحي فى البداية فى مشروع القرنة بالأقصر، لكن سرعان ما انسحب رمسيس ويصا واصف قبل أن يتم بدء البناء نظرًا لاختلافه مع صديقه وزميله “حسن فتحى” صاحب المشروع الأصلى، وأصل الانسحاب لم يكن لشىء إلا لضيق الفرصة علىهما ليمارسا حريتهما فى التفكير والإبداع، لذا لم يحقق “رمسيس واصف” أفكاره المعمارية إلا حين اشترى قطعة أرض فى قرية الحرانية أقام عليها مركزًا للفنون قام فيه بتعليم أبناء القرية مجموعة من الإبداعات الحرفية كان أبرزها السجاد ذا الرسوم البدائية الذى ذاع صيته عالميا لما يعكس من قيم جمالية شديدة الصدق فائقة الإبهار.. كان يؤمن أن بداخل كل طفل مصرى فنانًا، وأنه ليس علينا سوى ألا نتدخل لكى يخرج بفطرته لوحاته الفنية.. كان يستقبل أطفال القرية دون انتقاء أو تمييز.. فقط مهمته الأساسية ضرورة غرس الثقة بالنفس داخل الصغير ليحيا حياته الطبيعية الفطرية.. استشعر “رمسيس واصف” حقيقة عبقرية الطفولة الخالية من الصناعة والتصنع فوقف فى ساحة متحف اللوفر العالمية بباريس يعرض عام 1976 رسوم أطفال الحرانية فى الصالة المقصورة على عباقرة الفن ليقنع العالم بإبداع الطفل المصرى بمنطق قال فيه: تركتهم يعبرون فى براءة عن أنفسهم..

رمسيس واصف.. الرائد المعمارى الباحث عن الأصول الحقيقية للعمارة المصرية

رمسيس واصف.. الفنان الأستاذ المدرسة المربى الفاضل الرائد المعمارى الباحث المستكشف عن الأصول الحقيقية للعمارة المصرية، المستنفر الراعى لجذور فنون الفطرة.. ولد فى القاهرة عام 1911 فى أسرة تهتم بالعمل السياسى حيث يتردد فى جوانب البيت كلمات: “الأمة.. الدستور.. العدالة.. الاستقلال” التى تمثل المطلب والأمل والنداء الذى يسعى إليه الجميع.. الأم التى تنتمى لعائلة باسيلى الطوخى من طنطا أنجبت رمسيس وأوزوريس وأوريس، ومن البنات إيزيس وسيرس، والتحق رمسيس فى سن السادسة بمدرسة الليسيه بالقاهرة ليحصل على شهادة البكالوريا عام 1928.. فى البيت كانت الثقافة والفن مناخا أبدعه وقام بتأصيله الأب المحامى السياسى العضو الفعّال فى حزب الوفد رئيس شرف جماعة الخيال للفنون والتصوير والرسم، ومن رواد صالونه الثقافى المثاّل محمود مختار المنشغل فى ذلك الوقت بنحت تمثال نهضة مصر الشهير، وكان الأب ويصا واصف أحد أعضاء اللجنة التى تشكلت للإشراف على إقامة التمثال الذى وصل الاكتتاب القومى لمشروعه 6500 جنيه، وبعد نفاد الاعتماد استطاع ويصا واصف الحصول من البرلمان على اعتماد آخر بلغ 12000 جنيه… الحديث عن نهضة مصر، والهدف القومى الواحد، وحرية التصويت، وسيادة الفن، ودور النحت العظيم، وأهمية تفرغ الفنان، ورعاية المواهب الفذّة.. مثل تلك الموضوعات المطروحة بين جدران البيت يتابعها رمسيس الطفل بشغف يبلغ حد اليقظة التامة لتظهر جليا موهبته الرائعة وهو لم يزل فى الخامسة من عمره حتى أن الجميع كانوا ينادونه بلقب “الفنان”.. ومنذ ذلك الوقت تولدت لديه رغبة الاقتداء بالفنان المثال محمود مختار.. ويتحقق حلم الارتباط الفعلى به فى الكبر عندما يعهد إليه ببناء متحف مختار الذى استوحى رمسيس لواجهته عمارة معبد الكرنك وجعل الزائر يشعر بداخله وكأنه يسير فى ردهات المعبد الفرعونى العتيق، حيث تصحبه مشاعر الرهبة والغموض حتى الوصول إلى ضريح مختار فى نهاية المتحف مما يُوحى وكأنه اللقاء بقدس الأقداس، فتتخلق المعادلة الصعبة لتواصل الحديث بتاريخ العمارة المصرية القديمة..

رمسيس واصف والدراسة في فرنسا

فى عام 1929 يسافر رمسيس واصف للدراسة بفرنسا ويلتحق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس ويتخصص فى الفن المعمارى، ولم يمهل القدر أن يرى الأب عودة الابن غانمًا بشهادة الهندسة، فقد مات ويصا واصف بعد حياة وطنية حافلة بالأحداث التاريخية وهو ابن مدينة طهطا بصعيد مصر عام 1873 الذى قالت عنه “مى زيادة”: “كان مثقفًا واسع الاطلاع مملوءًا حِكمة وتبصرًا واتزانًا” وفى تأريخ المؤرخ عبدالرحمن الرافعى جاء: “إن ويصا اختير فى اللجنة الإدارية للحزب الوطنى ضمن ثلاثين عضوًا بارزًا ليغدو من قادة الحزب إلى جانب الزعماء الكبار”.. وحول دوره كنائب برلمانى يقول عن نفسه: “إننى أُمثل فى البرلمان دائرة لا قبطى فيها غير نائبها”..

سافر ويصا ضمن الوفد مع سعد زغلول وصحبه إلى باريس لعرض مشروع استقلال مصر، حيث كان وكيلا لمجلس النواب فى عهده، وبعدها رئيسا للمجلس فى عهد النحاس عام 1930 عندما حدث خلاف دستورى بين الملك فؤاد والنحاس فقام الملك بإقالة حكومة النحاس وتعطيل البرلمان وتأجيل انعقاده وإغلاق أبوابه بالسلاسل وإطلاق النار على المتظاهرين، فيخترق النحاس الحصار، وإذا بـ«واصف» بصفته رئيسًا للبرلمان يأمر بتحطيم السلاسل وفتح الأبواب غير عابئ بقرار الملك المدعم من الانجليز، وعقد الجلسة البرلمانية كالمعتاد، فأصدر إسماعيل صدقى رئيس الوزراء مرسومًا ملكيا بحل المجلس لتجرى انتخابات لا يكون للوفد فيها الأغلبية، فيعود ويصا واصف لمزاولة المحاماة ليقف أمام المحاكم المختلطة يدافع عن المظلومين والثوار بدون أجر.. ويرحل فى مايو 1931 لتودعه الجماهير بهتاف محطم السلاسل، وتتردد الإشاعات بأن الملك فؤاد كان وراء موته مسمومًا.. ويمكث الابن رمسيس فى باريس ليحصل على دبلوم العمارة عام 1935 وكان مشروع تخرجه يحمل عنوان «المبانى الفخارية فى مصر القديمة» وتمنحه اللجنة الفرنسية شرف الجائزة الأولى.. ويعود إلى القاهرة عام 1936 لينضم إلى هيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة ليقوم بتدريس الفن المعمارى وتاريخ العمارة، ويتدرج فى وظيفته ليغدو رئيسا للقسم فى الفترة ما بين 1965 حتى 1969 معلنًا أنه غير راض عن العمارة المصرية.. ومتسائلا: لماذا لا تفرز حضارتنا الفنية سوى هذا الكم الهائل من البرودة والقبح اللذين يحلان مكان العمارة الأصلية الفنية؟ ولماذا يصل الوباء البنائى إلى الأحياء القديمة العريقة التى بدأ يظهر فيها طفح المبانى الحديثة المشوهة؟.. إنها الإهانة الكبرى للحس الإنسانى.. الوصمة فى جبين بلد الأصالة والعراقة والبناء العظيم.. إنه الوباء الذى يكتسح أمامه الجمال ليزرع الجمود وينزع جذور الحس المرهف.. الخطر الذى يشوه وجه مصر….

ويمضى رمسيس فى جولاته الاستكشافية التأملية لينظر ويدقق ويتشرب الحس المصرى الأصيل فى أحياء مصر القديمة… يتملى من المبانى ويحادث السكان ويلتقى بالحرفيين من نساجين وفخارين ومشكلى زجاج ونحاتى أحجار.. ومن خلال لقاءاته يكتسب خبرة فائقة فى مهارات الحِرَف التى مالبث أن استعان بها بعدما أدرك مصيرها وطريقها المؤسف للاندثار، فرغم صدق وأمانة هؤلاء الحرفيين كان واضحا له أنهم لم يعودوا يشكلون القدرة على الإبداع، والكثير منهم يرحل دون أن يدرب خليفة له فى حرفته.. تلك الحقائق تحفر أثرا عميقا فى رمسيس نفسه، مما يدعوه إلى التأمل فى مصير الإنسان فى عصر الآلة، وكيف يمكن للميكنة المتزايدة ووسائلها الجامدة تخريب ملكات الإنسان الطبيعية.. لهذا استقرت نيته فى البحث عن منظومة فكرية تعطى العمارة المصرية الشخصية الوطنية المستمدة من الثقافة والمناخ والتراث، فكانت عمارة قرى النوبة المبنية بالطوب اللبن والمسقوفة بالقباب هى الإجابة والنتيجة التى أسفر عنها بحثه الطويل ليترك التنفيذ للمهندس الفنان حسن فتحى.. لقد وجد فيها السبيل السليم للعمارة المصرية وليس الحل فى المبتذل المتمثل المعتمد على العمارة الأوروبية التى غدت سبيلا وحيدا للعمارة الحديثة فى مصر.. ومن هنا لم يتحقق لرمسيس تحقيق نظريته فى البناء إلا فى تشييده لمركز الفنون بالحرانية حيث بنى بمساعدة بنائين من النوبة خانات عمل الفنانين من الطوب اللبن مسقفة بالقباب توفر مناخا بديعا يؤكد الاتصال الحضارى والتاريخى، وبين الخانات ممرات مسقوفة تجبر على الانحناء مما يجعل المرء وكأنه بين جنبات مدينة الفسطاط القديمة.. لقد كان يرى أن البناء لابد وأن يعكس الإحساس العميق بالطبيعة ومحاكاتها، وأن المبنى يجب نحته أولا بمادة الصلصال ثم رسمه على الورق وحضور تنفيذه أولا بأول مع إمكانية التغيير وفقا للإحساس الفنى.. وقد حصلت عمارة رمسيس فى هذا المركز على جائزة منظمة الأغاخان الدولية فى عام 1938.. وتتشكل لجنة لتشييد كنيسة السيدة العذراء بالزمالك برئاسة المستشار إسكندر قصبجى الذى يقع اختياره على رمسيس ويصا واصف لبنائها فيقوم بتشييدها لا لتعبر عن الديانة القبطية فحسب ولا حتى عن عمارة الديانة الفرعونية والعمارة الإسلامية بل تكشف عن ترابط الديانات فى حوار بنائى رائع فالواجهة الأمامية تجمع فى وقت واحد بين البوابة الفرعونية للمعبد بشكلها المسطح المستطيل، وبين إيوان يمثل مدخل الجامع الإسلامى، وقبة مكورة تشير إلى الكنيسة القبطية، كذلك الواجهات الجانبية توجد فيها شبابيك الكرنك الطويلة تفصل بينها أعمدة بداخلها تسكن إشارات توحى بأنها أعمدة معبد فرعونى ومسجد وكنيسة وأعلى تلك الشبابيك نماذج أخرى توحى بنوافذ الجوامع والكنائس.. كذلك برج الكنيسة نفسه يجمع فى مظهره بين المسلة الفرعونية والمئذنة الإسلامية وبرج الكنيسة.. وينال المهندس رمسيس ويصا واصف جائزة الدولة التشجيعية فى التصوير عام 1961 ويأتى فى تقرير لجنة الجائزة أن أوجه نشاط المطلوب للجائزة:

– رحلات صيفية فى أوروبا من سنة 1937 حتى سنة 1958 لزيارة متاحف وعمائر إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا وسويسرا.

– إقامة معارض فنية لسجاد الحوائط «Tapestries» بسويسرا وألمانيا والسويد والدانمارك والنرويج وهولندا، إلى جانب عدة معارض فنية بالقاهرة والإسكندرية.

– بحوث علمية ونظرية فى فن العمارة وشبابيك الزجاج المعشق، والنسيج والصباغة، والخزف، والزجاج وغير ذلك من الفنون والحرف المعمارية.

– تجربة فى التربية الفنية مع صغار القرويين بالريف المصرى تهدف إلى خلق فن رفيع وحرف فنية جميلة، وكان من نجاح هذه التجربة أن انتشرت أخبارها بمعظم بلاد أوروبا والولايات المتحدة، ونشر عنها فى العديد من المجلات والصحف العربية والأجنبية.

وجاء فى نهاية العرض لنشاطات الفنان أنه فيما يتعلق بالزجاج الملون الذى تقدم به السيد المهندس رمسيس ويصا واصف عن عمله بكنيسة العذراء بالزمالك، فقد رأت اللجنة سلامة الاتجاه من ناحية إحيائه للتقاليد العربية التى كانت سائدة فى البلاد فى عصور ازدهار الفن العربى، حيث استخلص عناصر تكوينه الفنى من موضوعات دينية ووضعها فى تكوين محكم وألوان متكاملة جعلت هذه النوافذ الزجاجية جزءا متمشيًا مع الفن المعمارى للمبنى.

والجديد والجميل الذى قام رمسيس بترسيخ نظريته فى أهمية ترابط الإنسان والبيئة أنه عندما اشترى أرض مركز الفنون بالحرانية ليبنى فوقها بيوتا للفلاحين بالتقسيط ترك تصميم كل بيت كما يحلو لصاحبه وكانت جميعها من الطوب اللبن مسقوفة بالقباب متجاورة تنفتح جميعها على صحن مشترك.. ويواصل المشيِّد عمرانه الحضارى فى أنحاء القاهرة فيصمم بنايات عدة مدارس منها مدرسة ابتدائية بمصر القديمة ومدرسة الليسيه بباب اللوق وكنيسة مارجرجس بمصر الجديدة وكنيسة الآباء الدومينيكان بالعباسية.. وفى عام 1963 يُدخِل فن نسيج القطن الرفيع بمركز الحرانية ليقوم بتعليم الأطفال طريقة تلوين الأقمشة يدويا.. ويرى بعدها فى استقالته ضرورة ملحة للتفرغ للعمل بعدما استكمل بناء مركز الحرانية للفن الشعبى.. يدرب أطفال القرية على طريقة الغزل بواسطة النول ثم يترك للطفل حرية أن يغزل ما يشاء ويلون كما يريد لتأتى اللوحات تصور عادات الشعب وأسلوب حياته فى بلاغة لا تتكرر..

خلال مشوار الفن والحلم والبناء يلتقى رمسيس بصوفى ابنة الرسام والنحات حبيب جورجى المولودة عام 1922 وخريجة معهد الفنون 1946 «كان صديقًا لوالدى يكبرنى بعشرة أعوام.. طلب منى الزواج فقررت التعرف عليه أولا.. أخلاقه وطِباعه.. تحمله للمسئولية.. قدرته على العطاء بلا مقابل.. و.. أمضينا نحو عامين نلتقى ونتحادث ونكتشف طباعنا عن قُرب إلى أن شعرت بأننا نكمِّل بعضنا وأن السعادة ستسير فى رِكاب تفاهمنا معًا، وحين تزوجنا فى عام 1948 رفضت أن أسكن بعيدا عن أسرته.. أحببت أخته والسيدة والدته الحكيمة الطيبة. اقترح بناء مكان خاص لنا داخل بيتهم، فقلت له هنعيش فى أوضتك عادى خالص، ورفضت شراء خاتم للزواج.. المسألة سلسلة وأنا لا أميل إلى التعقيد والتفاصيل الكثيرة المهم عندى هو الأخلاق ولمّا جه يقول لى نعمل مشروع يساعد الأهالى يتعلموا حاجة مختلفة وافقته على الفور وتحمست للتجربة، فأنا بنت حبيب جورجى أول واحد أدخل الرسم فى المدارس وأول واحد عمل معرض للفنانين المصريين يعنى أنا من بيت بيفهم قيمة الفن كويس.. ولاهتمامى بالناحية الاجتماعية والصحية لأهل القرية، كنا نحضر طبيبًا بصفة دورية للكشف على الأهالى ومنحهم العلاج، فكانت البلد كلها بتيجى لنا، لأن الكشف مجانى فبقينا نعمله بـ10 صاغ عشان اللى تعبان بس هو من يستحق العلاج..

كسب ثقة الأهالى

وتترك الزوجة الفنانة شريكة المشوار عملها فى وزارة التربية والتعليم وتتفرغ لمساعدة الزوج وتربية البنتين «سوزان» و«يوانا» ومصاحبة الزوج للتقرب إلى أطفال القرية عبر إشراكهم فى الألعاب وتكليفهم بأعمال متواضعة مقابل أجر زهيد من أجل كسب ثقة الأهالى للاعتماد عليهم فى العمل بمركز النسيج تحت إدارة التلميذة الأولى «ماريام».. ولا تمضى إلا فترة وجيزة ليندفع الكثيرون للعمل بالمركز يعبرون بواسطة الخيوط عن محيطهم الفكرى وخيالهم العفوى.. وينغمس المترددون فى تعلم المهنة تدريجيًا حتى تغدو تعابيرهم الفنية أكثر نضجا، ويصبح لكل واحد منهم طريقته الخاصة وأسلوبه التعبيرى المميز.. من ناحية يتبعون النصائح والتعاليم فى اختيار الألوان والموضوعات، ويتركون الباقى من جهة أخرى لحرية خيالهم وللثراء الذاتى الحميم لكل منهم.. ويصا.. يلعب دور الموجه من قريب أو بعيد.. يشجع ويساعد ويحرص على تفادى الجمود، ويغوص لأذنيه فى المشاكل العائلية والصحية محاولا تذليلها.. يحرص على أن يكون العمل مأجورًا ليُسهم فى دعم الحياة العائلية للمشاركين فيه، أما تنظيم العمل فكان يخضع لعفوية جديرة بالاهتمام، فقد كان بعيدًا عن تحديد الساعات ودون الخضوع لبرامج محددة مسبقًا.. كما قام ويصا فى الحديقة المحيطة بالمركز بزرع أنواع غير مألوفة من الخضرة والأزهار والنباتات ليفتح آفاقا ومجالات جديدة للاستيحاء والتطبيق والاختيار.. وكانت صوفى تقود الفنانين الفطريين فى جولات على شاطىء النيل وفى قلب واحات النخيل، وتصحبهم إلى شواطيء البحر وحديقة الحيوانات وتأخذهم فى رحلات السفارى وسط رمال الصحراء.. فأتت الأعمال مذهلة فى النضج الفنى والبلاغة الجمالية.

الموت المفاجئ

وفجأة.. يسقط واصف فى خضم مسيرته.. يأتى موته المفاجئ فى 13 من يوليو 1974 إثر أزمة قلبية حادة.. يرحل عن الحرانية وهو فى سن الـ63عاما.. تأتى وفاته كضربة قاصمة لعائلته وللحرانية ولفنه.. إلا أن العائلة تتغلب على المصاب لتقوم من كبوة الحزن لتتابع المسيرة على خطى المؤسس الراحل.. وتقيم الزوجة صوفى متحفا ضخما تعرض فيه غالبية أعمال ولوحات السجاد التى تعطى فكرة واضحة عن تطور هذا الفن الحرفى منذ بداية تجربته والذى تستخدم فيه خامات مصرية عمادها النباتات التى تستخرج منها الأصباغ مثل نبات «المضر» الذى يستخرج منه الصبغة الحمراء، ونبات «ريزى ليبيتولا» الذى يُخرج الصبغة الصفراء، وتنمو هذه النباتات فى أرض المشروع نفسه للحصول على الكمية الكافية سنويا لصبغ الخيوط المستخدمة فى السجاد، ولكن المشروع لا يزرع نبات «النيلة» الذى يستخدم فى إنتاج الصبغة الزرقاء وهو نبات لا تتم زراعته فى مصر لهذا يستورد من فرنسا التى تستورده بدورها هى الأخرى من الهند.

فن السيراميك

أما الابنة الكبرى سوزان فتشرف على الجيل الثانى من الحرفيين، فقد كانت تجربة والدها دافعا كافيا للكفاح فى ميدان هذا الفن.. اهتمت سوزان إلى جانب النسيج بفن السيراميك الذى ورثت حبه عن أبيها وبالفخاريات التى أتقنتها على طريقته، أما يوانا الابنة الصغرى فقد أخذت على عاتقها مهمة صناعة السجاجيد القطنية، فقد تمكنت بمساعدة 51 حِرفيًا شابًا من التحرر نهائيًا من عبء الخيوط الصوفية، واستعادت فن النسيج المصرى القديم وطبقته على أعمال المركز..

وبين عام 1952 حتى عام 1993 أقيم أكثر من 26 معرضا لأعمال ويصا واصف بالحرانية فى جميع أنحآء العالم.. من نيويورك إلى بالى، ومن ألمانيا والسويد وهولندا والنرويج والدانمارك إلى فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا، مرورًا بشتوتجارت وبرلين وميونخ وميلانو واستكهولم وسان فرانسيسكو، وكان آخر المعارض فى شهر يونيو 2022 بقاعة «أوبونتو» بالزمالك تحت عنوان «رحلة مع الإبداع».. معارض تتظاهر فيها دهشة الزوار الأجانب لتتمحور فى كل مرة حول المقدرة الفائقة على المزج بين الحرفية العفوية والتقنية القديمة والحديثة.. أبناء ريف مصر البسطاء يجذبون أنظار العالم ويشغلون بحياتهم اليومية وطقوسهم وأعراسهم ومواسمهم اهتمام جمهور الغرب المتذوق والمتخصص المطَّلع على أدق تفاصيل الفن العالمى، والفضل يعود إلى «ويصا» من عرف كيف يحيى التقاليد وينعشها ويمدها بالدفق اللازم بعد أن اهتدت على يده الأنامل الفطرية إلى أصول التعبير الدقيق مخلدة ذكراه لتقتنى عشرات المتاحف العالمية ومئات الشخصيات المهمة فى العالم قطعا من نسيج أبناء الحرانية، وتقتبس السويد فكرة ويصا واصف وتقيم مدرستها لنسجيات أطفال الفطرة ولكن شتان ما بين حرارة كل من الطفلين المصرى والسويدى فى رسوماته، وتتوقف أميرة ويلز الراحلة «ديانا» طويلا أمام سجاجيد الحرانية فى معرض قاعة الباربيكان فى لندن لتمضى تسعين دقيقة فى ذهول وإعجاب لدقة الصنعة وجمال الألوان، حيث تقوم المصرية المبدعة فى قاعة العرض ذاتها بنسج سجاد جديد أمام جمهور الحاضرين.. تذهل ديانا من تلك الدقة والسرعة والإبداع دون نموذج معد مسبقًا.. تسأل ديانا الفلاحة المصرية الفنانة «نادية محمد» عن النموذج الذى تنقل منه فتشير إلى رأسها وقلبها بأنه يسكنهما..

نادية التى تقول عن عملها فى مركز ويصا واصف بالحرانية: «لا يوجد عندنا نظام صارم خاص بالمواعيد. أنا ممكن آجى من تسعة وأقعد لغاية المغرب وممكن لو ورايا شغل فى البيت ماجيش».. نادية التى تذهب إلى نفس موقعها ومكانتها وغرفتها التى لم تتغيَّر منذ 35 سنة: «أنا مكانى معايا مفتاحه ومحدش يقدر يفتح الأوضة غير زميلتى ثريا اللى بتشتغل معايا وموضوعاتى بسيطة خالص الحاجة الحلوة اللى بتشدنى فى الطريق.. شغلانتى مافيهاش ضغط لمّا بمِّل بمشى.. فى المعارض خارج البلد بنسافر مع شغلنا زى ما احنا بنلاقى الناس مستنيانا عشان تسألنا عن السجاجيد اللى عاملينها وعاجباهم».. نادية وصباح ورضا وهانم عندما يسألن عن امتداد الصنعة تجيب عنهم نادية: «أنا بقى لى على السجادة دى شهر وعلشان عيل من عيالنا يقعد عليها حاجة صعبة بل مستحيلة».. وحول مدة العمل تلك نعرف من نادية أن سجادة الحرانية الكبيرة بحجم مترين فى ثلاثة أمتار يستغرق العمل فيها ما يقرب من عام كامل، والسجادة الصغيرة ما بين ثلاثة إلى خمسة أشهر..

متحف رمسيس ويصا

الابنة سوزان ويصا واصف التى تقف حامية حانية موضِّحة شارحة لإبداعات متحف والدها فى الحرانية المفتوح يوميًا للجمهور من العاشرة صباحًا ما عدا الاثنين، يزورها الإعلامى القدير محمود سعد صاحب البرنامج الريادى «باب الخلق» ليسألها خلال جولته المبهورة للمعروضات عن ثمن إحدى روائع السجاد المعروضة، وقبل إجابتها يُسارع بالنظر إلى خلف السجادة ليعود إلينا قائلا مع بسمة لها معنى بأنها من صُنع نجلاء، وثمنها يماثل رقم الأوتوبيس 88 القاطع الطريق من المنيرة لباب الخلق مع وضع ثلاث نقاط فى المقدمة… وتشرح سوزان قائلة إن الصانع يأخذ 40٪ من التكلفة خلال العمل والبقية بعد الانتهاء وتقييم المركز الذى يقوم بالشراء لنوعى السجاد النايم والواقف والأول هو الأصعب، وحاليًا المبيعات تغطى مواد التصنيع، وهناك متحف لكل فنان، حيث نراعى الاحتفاظ بعمل أو عملين له غير مخصصين للبيع.. والمركز طوال عمره منذ أول عاملة فيه وكان اسمها «بسمة» لم يكن كيانًا منفصلا عن مجتمعه والحرانية الآن لا يخلو منزل فيها من النول حتى ولو بشكل تجارى.. الآن آخر جيل يعمل فى المركز حيث سينقطع الأثر من بعدهم.. الأجيال الجديدة خلاص فقدت الشغف..

وحق علينا أن نسأل أنفسنا عما يفسد فن الصغار من بعد علو شأنهم فى مراحل الطفولة عندما يكبرون ونسمعهم كبارا يقولون فى حسرة: «كنا بارعين فى الرسم فى طفولتنا.. ولكن».. لكن هذه تأتى بعدها حكاية كل واحد.. تدخل فيها حكاية عن مدرس غاضب، أو وقت غاضب، أو فكرة خاطئة عن الفن، أو نظرية دونية للفن فى عيون الأسرة، أو سقوط كلمة التشجيع فى بالوعة الانشغال، أو وأد الموهبة المشرئبة بصلف التجاهل والإدعاء.. أو.. ألا يقول أحد الحقيقة:

إننا نفتقد البراءة والتلقائية..

إننا وأدنا الصدق واعتنقنا الزيف..

إننا ضللنا الطريق وأضعنا البوصلة..

إننا خاصمنا الجمال واعتدنا القبح..

إننا بلا ذوق ولا حس ولا هوية فنية..

إننا كفرنا بالممكن وآمنا بالمستحيل..

إننا نحبط الحلم الذى كان……. ممكنا

سناء البيسي/ جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى