العالم يقرأ

العقل المتجسد وتحدياته للفكر الغربي

  • العقل بطبيعته متجسد [أي: جزء من الجسد كالبطن والقلب]
  • الأفكار في غالبها لاوعي
  • المصطلحات المجردة [كالشجاعة/الجبن، الجمال/القبح، الخير/الشر] في أغلبها مجازية.

كانت هذه ثلاثة نتائج لعلم المخ والأعصاب.

لأكثر من ألفيتين من التخمينات الفلسفية المعتمدة على البديهة عن هذه الجوانب من المنطق انتهت. وبسبب هذه النتائج، لن تكون الفلسفة أبدا كما كانت عليه من قبل. عندما تُأْخَذُ مجمَلَةً مع اعتبار تفاصيلها، لاتتسق هذه الاكتشافات الثلاث الناتجة من علم العقل مع جوانب أساسية من الفلسفة الغربية.وهذا يتطلب إعادة تفكير شاملة لأغلب المناهج الحالية المشهورة، خصوصا، فلسفة مابعد الحداثة والفلسفة التحليلية الأنقلو-أمريكيتان.

يسأل هذا الكتاب: ماذا سيحدث لو اعتمدنا على هذه الاكتشافات التجريبية عن طبيعة الدماغ وقمنا ببناء فلسفة من جديد؟ الجواب هو أن فلسفة تجريبية مقبولة قد تتطلب من ثقافتنا أن تهجر بعضا من أعمق افتراضاتها الفلسفية. هذا الكتاب هو دراسة مطولة لبعض هذه التغيرات بالتفصيل.

فهمنا لطبيعة الدماغ مهم جدا. فأغلب اعتقاداتنا الفلسفية مرتبطة بشكل لاينفك لنظرتنا للمنطق. فلألفيتين من الزمن، اُعْتُبِرَ المنطق الصفة المميزة للبشر. المنطق لايشمل فقط الاستدلال المنطقي. ولكن أيضا، يشمل قدرتنا على طرح التساؤلات، حل المشكلات، التقييم، النقد، والتفكير في كيفية قيامنا بفعل ما، لنصل لفهم أنفسنا، الناسِ الآخرين، والعالم.

ولذا،فهذا التغير الجذري لفهمنا للمنطق يستلزم تغيرا جذريا في فهمنا لأنفسنا. إنه لمن المفاجئ اكتشاف، على أسس بحثية تجريبية، أن التفكير المنطقي لم يكن كما ظنته الفلسفة الغربية. ولكنه صادم أن نكتشف أننا [كبشر] نختلف كثيرا عما اخبرتنا به تلك التقاليد الفلسفية.دعونا نبدأ بتغير فهمنا للمنطق:

المنطق ليس منفصلا عن الجسد كما يعتقد في التقاليد القديمة، بل ينشأ نتيجةَ طبيعةِ عقولنا، أجسادنا، وتجاربنا الجسدية. هذا لا يعني الفكرة، الواضحة والغير ضارة، بأننا نحتاج جسدا لنكون المنطق. ولكنه تلك الفكرة الصاعقة بأن أدق تفاصيل البناء المنطقي تأتي من تفاصيل تجسيدنا.

فبنفس ميكانزما [/طريقة] الأعصاب و الإدراك التي تسمح لنا بالتصور والحركة خلال هذا العالم، هي نفسها التي تبني انظمتنا المفاهيمية وطرائق منطقنا. وعليه، حتى نفهم المنطق يتحتم علينا أن نفهم تفاصيل نظامنا البصري، الحركي، والميكانيزمات العامة للربط العصبي للدماغ. باختصار، المنطق ليس، بأي حال من الأحوال، ميزة متجاوزة [/مفارقة] لهذا الكون أو ميزة لعقل مفارق للجسد. بدلا عن ذلك، يشكل المنطق تلك الخصائص الفريدة لأجسادنا المتمثلة في:

التفاصيل، الجديرة بالاهتمام، للتركيب العصبي لأدمغتنا، والتفاصيل اليومية لعملنا وحركتنا في هذا العالم.

المنطق تطوري [evolutionary]. فالمنطق المجرد [abstract reason] يبني على و يستخدم أنواعا من الإدراك الحسي والتفسير الحركي الموجود في الحيوانات ‘الأدنى.’ إذا، فالنتيجة هي داروينية المنطق؛ فالمنطق الدارويني يعني أن المنطق يستخدم، حتى في أكثر صوره تجريدا، طبيعتنا البهيمية، بدلا عن الكائنات المتجاوزه.

 اكتشاف أن المنطق تطوري غير تماما علاقتنا بالحيوانات الأخرى وغير تصورنا عن الإنسان ككائن حي يتميز بالمنطق. وعليه، فالمنطق ليس جوهر اختلافنا عن باق الحيوانات؛ بدلا عن ذلك، يضعنا المنطق على نفس الخط مع البهائم الأخرى مع اختلاف في الدرجة.

المنطق ليس ‘عالميا’ بالفهم المتجاوز [المنفصل] لكلمة عالمي؛ يعني: المنطق ليس جزئا من تركيب هذا الكون. ولكن المنطق عالمي من جهة أنه مقدرة عقلية عالمية يتشاركها كل البشر. مايجعل هذه المقدرة عالمية هو القواسم المشتركة لطرق تجسيد عقولنا.

المنطق ليس وعيا، فأغلبه لاوعي.

المنطق ليس حرفيا، فغالبه مجازي تخيلي.

المنطق ليس بمعزل عن العوامل الخارجية، بل هو مرتبط بها عاطفيا.

هذا التحول في فهمنا للمنطق له أبعاد كثيرة، يستلزم تحولا في فهمنا لأنفسنا كبشر [being]. مانعرفه الان عن الدماغ يضعنا في مفترق طرق مع النظرات الفلسفسة الكلاسيكية عن ماهية الإنسان.

 فعلى سبيل المثال، لاوجود البتة للشخص الثنائي الديكارتي حيث عقله منفصل ومستقل عن جسده، وحيث أن هذا العقل يتشارك مع بقية البشر نفس المنطق المتعالِ، وقادر على أن يتعرف على ويتعلم عن عقله بمجرد التأمل الذاتي [self-reflection].

بدلا عن ذلك، العقل بطبيعته متجسد، والمنطق يشكله الجسد. أيضا، وحيث أن معظم أفكارنا هي نتاج اللاوعي، فلايمكن بحال أن يُعرف العقل بمجرد التأمل الذاتي. فالدراسات التجريبية لازمة هنا.

لا وجود البته للشخص الكانتي الذي يمتلك مطلق الحرية ويمتلك منطقا متجاوزا [منفصلا عنه] يقوده بطريقة صحيحة لمعرفة ماهو أخلاقي وماليس بأخلاقي. المنطق، بحكم أنه ناتج عن الجسد، لايتجاوز ولاينفصل عن الجسد. فالأوجه العالمية للمنطق [مثل الحب، الشجاعة، البخل إلخ] تنبع من تشابه أجسادنا، أدمغتنا، وتشابه البيئات التي ورثناها.

وجود هذه الأوجه العالمية لايعني من قريب ولا بعيد أن المنطق متجاوز عن الجسد. بالإضافة إلى ذلك، وحيث أن انظمتنا المفاهيمية [العقلية] متنوعة، فالمنطق ليس عالميا بالكلية.

 وبما أن المنطق يصوغه الجسد، فهو ليس حرا بالكلية، لأن كلا من الانظمة المفاهيمية و تكوينات المنطق الممكنة محدودة. بالإضافة إلى ذلك، متى ماتعلمنا نظاما مفاهيميا معينا، أصبح هذا النظام جزءا من عقولنا، فنصبح عندها غير أحرار في تفكيرنا. وعليه، فنحن لانملك حرية مطلقة بالمفهوم الكانتي. فلا وجود للاستقلال التام. لاوجود لمعرفة مستقلة بذاتها عن التجربة؛ بمعنى: أسس فلسفية خالصة لمفهوم عالمي عن الأخلاق، ولا منطق خالص متجاوز وعالمي يستطيع أن يبني قوانين أخلاقية عالمية.

الشخص النفعي، الذي يعتبر العقلانية هي عقلانية اقتصاديةـ تكثير المنفعة لحدها الأقصى ـ غير موجود البته. البشر الحقيقيون في الغالب ليسوا في تحكم واع ب، أو حتى بإدراك واع ل، منطقهم.علاوة على ذلك، معظم منطقهم معتمد على أنواع كثيرة من النماذج [التي سبقتهم]، الإطارات [كالسياسية والاجتماعية]، والمجاز. فنادر أن يتفاعل الناس بمنطق اقتصادي بحت يكثر المنفعة لحدها الأقصى.

 الإنسان الظاهري، الذي يستطيع عن طريق سبر أغوار الظاهرة [ التي يكونها الإنسان والعالم الذي حوله] فقط أن يكتشف كل شئ من الممكن معرفته عن الدماغ وعن طبيعة التجربة [/الظاهرة]، محض خيال. بالرغم أننا نستطيع افتراض نظرية عن لاوعي إدراكي واسع، سريع، واتوماتيكي، إلا أننا لانملك مَدْخَلاً مباشرا واعيا لطريقة عمل هذا اللاوعي وبناء على ذلك لانملك مَدْخَلاً مباشرا لأفكارنا. فسبر أغوار الظاهرة عن طريق التفكير والتأمل فيها، بالرغم أنه مهم في كشف تركيب الظاهرة، يجب أن يُعَضَّدَ ببحوث تجريبية عن اللاوعي الإدراكي.

لاوجود للشخص البنيوي-حيث لامركزيةَ بالكليةِ للموضوع [object] وكل معانيه عشوائية، نسبية بالكلية، و بقابلية تامة للتغير التاريخي[ historically contingent] ، والذي هو في حل من جسده وعقله. فالعقل ليس بمتجسد فقط، ولكنه متجسد بطريقة تجعل انظمتنا المفاهيمية تعتمد بقوة على القواسم المشتركة لأجسادنا وللبيئات التي نحيى فيها. كانت نتيجة ذلك هو أن أكثر مفاهيم الفرد البشري إما عالمية أو واسعة الإنتشار في اللغات والثقافات.

انظمتنا المفاهيمية ليست نسبية بالكلية وليست مجرد مسألة تغير تاريخي. يقال هذا بالرغم أن هناك قدر من نسبية مفاهيمنا و بالرغم من أن التغير التاريخي مهم بدرجة كبيرة. فهذا الأساس المشترك لأنظمتنا المفاهيمية المتمثل بالتجسيد المتشارَكِ [فيما بين البشر] والتجارب والمواقف الجسدية [للحياة اليومية] تخلق نفسا متركزة على ذاتها، ولكنها ليست نفسا مستقلة عن غيرها.

لاوجود للشخص الفرقسوني ـ كما يطرح في الفلسفة التحليلية ـ حيث الفكرة بالنسبة له موجودة خارج الجسد. بمعنى، لايوجد هناك شخص حقيقي لايشكل تجسيده المعنى، حيث يكون هذا المعنى خالص الموضوعية ويتم تعريفه فقط عن طريق العالم الخارجي، والذي تتوائم لغته مع العالم الخارجي بدون تأثير كبير من دماغه، عقله، أو جسده. ولأن انظمتنا المفاهيمية تنشأ من اجسادنا، يتغلغل المعنى في وخلال اجسادنا. ولأن أطيافاً متعددة من انظمتنا المفاهيمية مجازية، لايعتبر المعني حرفياً بالكلية، وعليه فنظرية التوافق الكلاسيكية للمعنى [The Correspondence Theory of the Truth] خاطئة.

تنص نظرية التوافق على أن البيانات [التي نطلقها عن طريق الكلام أو الكتابة] يمكن تصنيفها صائبة أو خاطئة بطريقة موضوعية، بالنظر في كيفية اتصالها بالواقع، باستقلالية تامة عن أي فهم إنساني للبيان أو للعالم الخارجي. بل العكس صحيح. فالحقيقة هي نقطة الوسط بين فهم متجسد ومقدرة على التصور[/التخيل]. وهذا لايعني أن الحقيقة بإطلاقٍ غير موضوعية أو أنه لايوجد هناك حقيقة ثابته. بالأحرى، تجسيدنا المتشابه يسمح بحقائق ثابتة متشابهة.

لايوجد هناك شخص حسابي، حيث أن عقله يعمل بطريقة حسابية كمبيوترية, يستطيع العمل على أي برنامج حاسوبي أو برامج المحاكاة العصبية– حيث يستخلص العقل بطريقة ما المعنى من رموز لامعن لها كمدخلات، التحكم بهذه المدخلات عن طريق قوانين، وانتاج رموز لامعن لها كمخرجات.

البشر الحقيقيون لديهم عقول متجسدة تمتلك نظاما مفاهيميا ينتج عن، يتشكل ب، ويتحصل على المعانِ من خلال الأجساد البشرية الحية. التركيبات العصبية لأدمغتنا تنتج انظمةً مفاهيميةً وتراكيباً لغويةً لايمكن تفسيرها باستخدام الأنظمة الرسمية [الكمبيوترية الحديثة] التي تقوم فقط بالتحكم [/التلاعب] بالرموز.

أخيرا، لاوجود للشخص التشومسكي- حيث لغته هي بناء لغوي محض؛ أي: تكوين خالص معزول ومستقل عن كل المعاني، السياقات، الملاحظة، المشاعر، الذاكرة، الانتباه، الحركة، وطبيعة ديناميكية[أو طبيعة التغير المستمر والمصاحب ل] التواصل [communication]. علاوة على ذلك، اللغة البشرية ليست وليدة جيناتنا [البشرية] بالكلية. في الواقع، هناك خصائص أساسية للغة البشرية نشأت تطوريا [evolutionary] من انظمة استشعارية، حركية، وعصبية موجودة في الحيوانات “الأقل”.

[لاشك أن،] المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية عن ماهية الشخص حرضت خيالاتنا وعلمتنا الكثير. ولكن عندما نفهم أهمية الإدراك اللاواعي، العقل المتجسد، ومجازية الفكرة، لن نعود مطلقا إلى الفلسفة البديهية للعقل واللغة أو لأفكار فلسفية عن ماهية الإنسان لاتتفق مع مانتعلمه عن العقل.

اخذا بالاعتبار فهمنا الجديد للدماغ، يعود إلينا مجددا سؤال ‘ماهو الإنسان؟’ بشكل عاجل.

طرح أسألة فلسفية يتطلب استخدام منطق إنساني

إن كنا سنطرح أسألة فلسفية، فيجب علينا أن نتذكر أننا بشر. وكبشر، لانملك مدخلا محددا لمنطق خالص موضوعي أو متجاوز. يتوجب علينا ضرورة استخدام الميكانيزميات[/طرق عمل] المتشاركة بين البشر للإدراك والخلايا العصبية للدماغ. ولأن أغلب أفكارنا هي لاوعي، فإن الفلسفة البديهية لامزية لها في إعطائنا مدخلا مباشرا يُمَكِّنُنا من التعرف على عقولنا وكيف تتكون تجاربنا.

عند طرحنا للأسألة الفلسفية، نقوم باستخدام منطق تشكل عن طريق الجسد، إدراك لاواعي لانملك مدخلا مباشرا عليه، وأفكار مجازية لانعيها. حقيقة أن الأفكار في غالبها مجازي يعني أن اجاباتنا الفلسفية كانت، وستكون، في غالبها مجازي. هذه الحقيقة بذاتها، ليست جيدة أو سيئة. إنما هي ببساطة حقيقة عن قدرات العقل البشري. ولكن لها تداعيات كبيرة على كل أوجه الفلسفة. الفكرة المجازية هي الأداة الرئيسية للتبصر[/التأمل] الفلسفي وعليه فهي التي تقيد الأشكال التي من الممكن أن تكونها الفلسفة.

 التفكير الفلسفي، بعيدا عن علم المخ [cognitive science]، لم يكتشف، يؤسس، ويختبر تفاصيل الأوجه الرئيسية للدماغ التي سنناقشها [في كتابنا]. بعض ممن امتلك بصيرة ثاقبة من الفلاسفة لاحظوا وجود مثل هذه الظواهر، ولكن كان ينقصهم الطرق التتجريبية [التي نمتلكها اليوم] ليؤسسوا لقاعدة متينة يستندون عليها لصلاحية نتائجهم ودراستها بشكل مفصل. بدون تأكيدات تجريبية، لم تجد هذه الحقائق طريقها للفلسفة الغالبة بين الناس.

مجتمعة، الإدراك اللاواعي، التجسيد العقلي، والفكرة المجازية تتطلب ليس فقط طريقة جديدة لفهم المنطق ولطبيعة الإنسان. ولكنها تتطلب أيضا فهما جديدا لواحد من أكثر الفعاليات الإنسانية شيوعاً و فطريةً– طرح الأسألة الفلسفية.

ماذا يحدث عند طرح أسألة واجابات فلسفية؟

إن كنت ستعيد فتح قضايا فلسفية، فإليك الحد الأدنى الذي يجب عليك فعله. أولا، تحتاج أداة بحث واستقصاء. ثانيا، عليك أن تستخدم هذه الأداة لفهم أساسيات المفاهيم الفلسفية. ثالثا، يجب عليك أن تطبق تلك الأداة على الفلسفات السابقة لفهم ماذا كانت تعنيه ومالذي يجعلها متناسقة فيما بينها. ورابعا، يجب عليك أن تستخدم هذه الأداة لطرح الأسألة الكبيرة: مايعني أن تكون إنسانا؟ ماهي الأخلاق؟ كيف يمكننا فهم التركيب العرضي للكون؟ وهلم جرا.

هذا الكتاب هو خطوة صغيرة آولية في كل من هذه المجالات…. [يصف المؤلفان في هذا الجزء من الرفيو لكتابيهما ما تضمنته أجزائه الثلاث].

ماخرج لنا في هذا الكتاب هو فلسفة أقرب للعظم. فوجهة نظر فلسفية تعتمد على فهمنا التجريبي لتجسيد الدماغ هي فلسفة في اللحم، فلسفة يستطاع الاعتماد عليها لتفسر بالاساس من نحن و ماذا يمكننا أن نكونه.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى