تعليم

التعلم نحو المعرفة.. لماذا نجحنا في أن نجعل أبناءنا يكرهون العربية؟

قد يبدو السؤال صادمًا للكثير من الناس، لكنه الواقع المرّ الذي ينبغي أن نقرّ به، ونسارع إلى مواجهته والعمل على مناقشته وإيجاد أجوبة موضوعية له.

والحقيقة أنني لا أدعي علمًا بجواب شاف عن ذلك السؤال؛ وإنما سأطرحه للنقاش العام مع الزملاء والمختصين وأولياء الطلاب والجمهور؛ لعلنا نجد أسبابًا واضحة نقدم من بعدها طرحًا موضوعيًا لأولي الأمر لعلهم يدركون ويتداركون إن كان في الوقت بقية.

ولأنني معلم ممارس تعليم اللغة لأكثر من ثلاثة عقود يمكنني أن أوجز أهم الأسئلة المكررة من الطلاب، والتي تعكس عدم قناعتهم بتعلم اللغة أصلا، منها مثلا:

_لماذا ندرس اللغة العربية وهي المعقدة جملة وتفصيلا؟ _ولماذا ندرس النحو (علم القواعد) ولا نستفيد به ولا منه؟ _ولماذا ندرس الشعر في مختلف عصوره، ولا سيما الجاهلي؟ _يسأل أحدهم:  وما أهمية أن ألمّ بعلم البلاغة، ومعرفة ما تسمونه مظاهر الجمال، فضلا عن تقسيمات البيان والبديع والمعاني؟ …

ثم ترى معظمهم يتفقون في طرح ذلك السؤال، وهو السؤال الأكبر:

_ماذا نستفيد من دراسة اللغة في مستقبل كل وظائفه معلن عنها بغير العربية، وتفاصيلها مشروطة بإجادة الإنجليزية في أعلى مستوياتها، فضلا عن إلمامك بالفرنسية، أو بعض الألمانية مثلا؟؟

وبرأيي لكي نكون موضوعيين لا بد من التسليم أولا بموضوعية هذه التساؤلات وعدم نكرانها لوجاهتها عند أبنائنا بقطع النظر عن اتهامنا إياهم في ضوء ذلك التغريب الممنهج الذي يحيط بهم من كل اتجاه.

كثير من البيوتات لا ننكر حرصها على تعليم أبنائها العربية من منطلقات عدة في مقدمتها الهوية والثقافة وتعلم لغة القرآن.. وهذا عظيم في مقابل من يتجاهلون العربية حديثا وتواصلا حياتيا في الأساس.

أما على مستوى المناهج والمقررات التعليمية، فلا ننكر بعض المحاولات المعدودة في تجميل المشهد اللغوي بنص جيد هنا أو هناك، لكن في الواقع تأتي المناهج والمقررات في صورة وكأنها صممت على عين من أراد بها سوءًا، فجاءت معقدة خالية من جماليات الطرح شكلا وموضوعا… فلا نصوص أدبية (في الغالب منها) ذات صلة بقضايا العصر للطلاب.. وأضرب لذلك مثلا، حين تجد الإصرار على تدريس نص أدبي من مقررات الصف الأول الثانوي عنوانه (وصية أم لابنتها) يطرح وصايا أم لابنتها عند الزواج… وتشير إلى فكر غير واقعية تحت أي مسمى، فيجد المعلم نفسه محاصرًا باستياء تلميذاته مهما يقدم للدرس، ومهما يبرر منطق الطرح!!

وحين تجد مقرر الصف الرابع بمصر وهو يعجّ بمصطلحات لغوية لم يتم التقديم لها بشكل وافٍ تدريبا واطلاعا… وحين تتساءل من أم لطفل في الصف الأول الابتدائي تسألك عن مفرد (جيش)، أو كيف تفهم ابنها تركيب (ضمير المخاطب)؟

وإن أصور لك حال الطلاب حين يهمّ المعلم بكتابة كلمة (نحو) على السبورة، كيف تشرئب أعناقهم إنكارا لما أقدمت عليه، وكيف تلفظ عيونهم بمفردات الاشمئزاز ما لا يسعني ذلك التصوير لبشاعته!

فلا المعلم  غير المدرب ولا الطلاب يطيقونه… وهنا تتساءل، أيناه ذلك العيب؟ وفيمن؟ أفي معلم غير مؤهل؟ أم في مناهج غير مناسبة؟ أم في طريقة تدريس لم تعد مناسبة؟ أم في رؤية كلية لم تعد مواتية؟!

إن تدريس  النحو أو علم التراكيب (كما أحب تسميته) لا يمكن أن يكون بهذه الطرق الشائعة من الأمثلة المجزوءة، والسياقات غير المتسقة، بل لا بد أن تكون من خلال التوظيف الاستعمالي والتواصلي الذي من أجله كانت اللغة… ولا يمكن بحال أن نستمر على إقرار نظريات عقيمة لم تعد مناسبة الطرح والتفعيل الميداني.

لغتنا الجميلة تلك التي اختارها الله رب العالمين وعاء للذكر الحكيم، وتشرفت حروفها وتزينت برسمه البديع، ومن بعد كانت حافظا أمينا للسنة المطهرة، وناقلة تراثنا العربي الشامخ شعرا ونثرا وفكرا وفنونا إلى العالمين… تلك اللغة تستوجب أن نقدمها لأبنائنا من خلال سياق تواصلي جميل، يعتمد منذ السنوات الأولى على تعليم مهارات اللغة من الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، وذلك وفق استراتيجيات متنوعة للدرس القرائي والأدبي والتخييلي، ثم توظيف ذلك كله في سياق المعرفة التي هي نتاج تعلم استقرائي ممتد يهدف إلى تحليل ونقد وطرح ورؤية.

_وفي الأخير، يبقى السؤال مطروحا، لماذا نجحنا في جعل أبنائنا يكرهون اللغة العربية؟!

د. ممدوح سالم- خبير تربوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى