العالم يقرأ

مقدمات الكتب العلمية العربية الكلاسيكية… جابر بن حيان

تُظهر قراءة تلك المقدمات أن ابن حيان هو المقدم لمفاهيم الخواص التي نعرفها الآن.. وأنه أول مَن قدم لنظرية عدم الانعكاس.. إحدى صيغ القانون الثاني للديناميكا الحرارية.. كما أنه أول مَن تحدث عن كروية الأرض.

تمثل المقدمات العلمية للكتب عامة، ومنها الكتب العلمية الحديثة، جزءًا أساسيًّا يحوي تقديم الكتاب للقارئ من قِبل المؤلف الخبير الذي يتقمص دور البائع الماهر للقارئ المتشوق ليُقنعه بسلعته، ويجذب انتباهه، ويجعله شغوفًا بقراءة الكتاب، وليتعارف على ما يحويه الكتاب، والفوائد التي سيجنيها، وما سيعود عليه من تلك القراءة، إضافةً إلى ذلك تعطي المقدمة صورةً بانوراميةً لموضوع الكتاب، وتشير إلى ما سيضيفه من إسهامات في موضوعه.

تعرض هذه المقالات مقدمات لكتب علمية عربية أصيلة ذات تأثير تاريخي مهم في الحضارة الإنسانية في مرحلتين من مراحل الإبداع العلمي في الثقافة العربية تجسد الإسهامات الأصيلة والكبيرة لعلماء الإسلام بدايةً من القرن الثامن الميلادي، والتي كانت عصور علم وتنوير ونهضة حقيقية للبشرية قاطبة، والمرحلة الثانية هي مرحلة أسرة محمد علي في القرن التاسع عشر، والتي فيها نهضت مصر من الحضيض ليكتب بعض بنيها كتبًا تقارن بما يكتبه علماء جامعات هارفارد وكامبريدج وأكسفورد.

البداية تخصيص مقال كامل لبعض من كتب جابر بن حيان الكثيرة والمذكورة في المصادر القديمة، مثل فهرست ابن النديم[1]، والمختار منها في كتاب “مختار رسائل جابر بن حيان”[2]، المنشور 1935 بالقاهرة وفرنسا في الوقت نفسه، والذي عُني بتصحيحه ونشره المستشرق بول كراوس، الكتاب يضم عشرين كتابًا لجابر بن حيان من كتبه التي لا تحصى، والتي يقدرها البعض بقرابة 3000 كتاب ورسالة في مجالات الآلات الميكانيكية والآلات الحربية والكيمياء والموسيقى والطب وعلوم الحياة والهندسة والفلسفة والمنطق واللغة، والتي ذكر منها ابن النديم في كتابه الفهرست عددًا محدودًا بأقل من 100 كتاب.

يقول في مقدمة كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل[3] وهو الكتاب الذي يوجد منه مخطوط وحيد بدار الكتب المصرية، تحت رقم 3 قسم الكيمياء والطبيعة صفحة 1-71: “الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير، الأول بلا مثال والآخر بلا زوال، وتعالى وتقدست أسماؤه، وهو بكل شيء محيط، اللطيف الغامض في بطون الأجزاء وظاهرها وما في أوساطها (العلي إلى ما لا نهاية له، والأسفل إلى ما لا نهاية له)، القدير على إدراك جميع الأشياء لطيفها وكثيفها، وقد وسمنا كتابنا بأعظم السمات وضمنَّا فيه المعنى الذي يقتضيه اسمه، وهو أعظم ما سمت إليه القدرة، وهو إخراج ما في القوة إلى الفعل”.

وفي مقدمة كتاب الحدود[4] الذي توجد منه النسخة الوحيدة بدار الكتب المصرية، رقم 3 قسم الكيمياء والطبيعة صفحة 72-86، يقول في المقدمة: “اعلم أن كتبًا في الحدود ذوات أفانين ومتصرفات متباينة بحسب طبقات العلوم التي قصد بها قصدها وأمر بها نحوها، فهذا كتابٌ منزلته من الشرف كمنزلة العلوم التي اختصت بها هذه الكتب، واعلم أن الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة حتى لا يخرج منه ما هو فيه ولا يدخل فيه ما ليس منه، ولذلك صار لا يحتمل زيادةً ولا نقصانًا.. وأن الزيادة فيه نقصان من المحدود والنقصان منه زيادة في المحدود”.

ويقول في مقدمة كتاب الماجد[5] الذي توجد نسخته الوحيدة في المكتبة الوطنية في باريس رقم 5096: “الحمد لله القديم العليم، الرؤوف الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد السيد الأعظم والإمام المقدم، وعلى آله وصحبه وسلم، ولأن كتابنا هذا هو كتاب الماجد، ما يجب أن يُذكر فيه ما يليق بمعنى هذا الاسم، ويقدم فيه ما يُبنى بعد ذلك عليه عند مجيء مكانه، واعلم أن الماجد عند الناس ممدوحٌ بفعله وكريمٌ بسجاياه وكرمه وجوده وبذله، وليس هو في الباطن بخلاف هذا وإن كان بخلافه على الحقيقة، وذلك أن أصول النقل من الأمور الحسية إلى الأمور العقلية”.

ويقول في مقدمة كتاب ميدان العقل[6] الموجود منه نسخة وحيدة في المكتبة الوطنية في باريس: “بسم الله الرحمن الرحيم، رب أعن برحمتك، الحمد لله كثيرًا كما هو أهله ومستحقه، ينبغي أن تعلم في كتابنا هذا قولنا على العموم والخصوص في أمر الموازين خاصة، فإن هذا الباب من علوم الناس تحار فيه العقول وتتبلد، حتى إن وقع على الناس فيه من الخطأ وقتًا بعد وقت، وهو أمرٌ ليس بالسهل ولا القريب، وإن في ذلك من المنفعة في تعلم صناعة الموازين للطبائع ما أصفه، وذلك أن تعلم قولنا في كتب الموازين منه ويتحصل به كل معنى عن أخيه”.

يقول في مقدمة “نخب من كتاب الخواص الكبير”، الذي توجد منه أربع مخطوطات في مكتبات مختلفة في العالم، يقول في الأولى منها[7]: “الحمد لله كما هو أهله ومستحقه الكريم الجواد الفعال لما يريد، تعالى عما يقول المبطلون علوًّا كبيرًا، مَن كان حافظًا لقواعد كتبنا هذه وترتيبها وما عليه موضوعها فسيعلم علمًا يقينيًّا أنا وعدنا أن نذكر في جملة كتبنا شيئًا مفردًا في علم الخواص، ولما كان سبيلنا في جميع تعالمينا أن نذكر فيها مشروح جميع الأشياء، فنلخص كتابنا هذا بتفسير كلمة الخواص وما معناها وترتيب كتب الخواص وكم هي وما فيها، نقول إن الخاصية إنما هي كلمة شاملة للأسباب التي تعمل الأشياء الوحية السريعة بطباعها، وإن فيها نوعًا آخر يعمل الأشياء بإبطاء، وإنها قد تنقسم أقسامًا: فمنها ما يكون تعليقًا ومنها ما يكون شربًا ومنها ما يكون نظرًا، ومنها ما يكون مسامتة، ومنها ما يكون سماعًا، ومنها ما يكون شمًّا، ومنها ما يكون ذوقًا، ومنها ما يكون لمسًا، وإن لكل واحد منها مثالًا يُعرف به ويرجع جميعه إليه”.

يقول في مقدمة كتاب “نخب من كتاب التجميع”[8]: “فينبغي عافاك الله أن تعرف هذه المواضع ولا يتصور لك المحال، فإن النحاس قد يمكن أن يخرج لك منه رصاص ويعود إلى النحاسية، وهذه الأشياء التي جرت هذا المجرى قد يجوز عليها خلع أنواعها ورجوعها، وليس ذلك في النبات والحيوان لأنها لا تنعكس؛ لأن الحجر إذا انفعل منه حجر أو حيوان أو نبات أمكن في ذلك الحجر المنفعل من الحجر والنبات المنفعل من الحجر والحيوان المنفعل من الحجر أن يعود إلى الحجرية، فإذا انفعل من الحيوان حجر لم يمكن أن يعود ذلك الحجر إلى الحيوان، وإذا انفعل من النبات حجر لم يمكن أن يعود ذلك الحجر إلى النبات، وليس ذلك في النبات والحيوان من قِبل ضعفها، وذلك أن الحيوان إذا جاء نباتًا لم يمكن أن يعود إلى الحيوانية في هذه الرتبة إلى أن يصير حجرًا ثم يرد إلى الحيوان فاعرفه، وإياك أن تروم منه ما ليس في الإمكان فتروم حجرًا”.

في هذه المقدمة يقدم جابر بن حيان لأول مرة في التاريخ نظرية عدم الانعكاس التي هي إحدى صيغ القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وهي أن كل المنظومات تسير في اتجاه واحد غير قابل للعكس، يقول في مقدمة نخب من كتاب التصريف[9]: “الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسلم تسليما، قد تقدم لنا قبل كتابنا كتب كثيرة في علم الموازين، وعلمنا فيها وجوه انفعالاتها ولم ندل كيف وجه العمل فيها، وعلمنا كيفيات الأشياء بالحروف على الأصول التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولم ندل على الكمية، وذلك أن الدليل عليها في الكمية علمٌ آخر ليس بمشاركة لما تقدم، فلذلك عدلنا به إلى كتاب آخر”.

يقول في مقدمة “نخب من كتاب الميزان الصغير”[10]: “وقد قدمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب المعروف بالصفوة ذكر النار والهواء والماء والأرض وكيف موضوعاتها في العالم، وأن النار محلها العلو والماء محله الوسط وهو السفل؛ إذ شكل العالم مدور، وأن الهواء والأرض فيما بين هذين العنصرين، فاعلم ذلك.

وقد كنا قدمنا أن النار والهواء والماء والأرض أيضًا مركبة ليست مفردة، وأن المفردات هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي منها تركبت النار والماء والهواء والأرض، فالآن ننبئ عن محل الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إذا كنا محتاجين إليه”.

يقول في كتاب “نخب من كتاب البحث”[11]: “فأما ما يجب للأستاذ على التلميذ فهو أن يكون التلميذ ليِّنًا قبولًا لجميع أقاويله من جميع جوانبه لا يعترض عليه في أمر من الأمور وإن كان كافيًا متصورًا للأمر، فإن ذخائر الأستاذ العالم ليس يُظهرها للتلميذ إلا عند السكون إليه والإحماد له غاية الإحماد، وذلك أن منزلة الأستاذ منزلة العلم نفسه ومخالف العلم مخالف الصواب ومخالف الصواب حاصل في الخطأ والغلط، وهذا لا يؤثره عاقل، وأيضًا فإن التلميذ متى لم يكن للأستاذ على هذا المقدار من الطاعة أعطاه الأستاذ قشور العلم وظاهره والشيء الذي يقال له علم الخارج والبراني، ولست أريد بقولي في التلميذ أن يكون طائعًا للأستاذ في شيء من الأمور الجسمانية والظاهرة من أنواع المنافع، بل إنما أريد بذلك قبول العلم والدرس وسماع البرهان عليه وحفظه وترك التكاسل والتشاغل عنه، فإن تلك الأمور الأولى لا مقدار لها عند الأستاذ الرباني؛ لأن الأستاذ في هذه الحال كالإمام للجماعة التي هو قيم بها، وكالراعي والسائس للأشياء التي يتولى صلاحها وإصلاحها، فمتى عسُرت عليه أو عسر عن التقويم فإما أن يطرحها وإما أن يتعبه تقويمها إلى أن تستقيم”.

يقول جابر بن حيان في كتاب “نخب من كتاب الاشتمال”[12]: “إن الكون لا بد منه، والدور لا بد منه، ودور وكر واحد لا بد منه.. والبصيرة بالعلم هو الإحاطة بالتمام، وكان علم التمام إنما يكون من أجل العطاء الأول، والعطاء الأول إنما يكون بجودة المزاج، ومكان العلم بالبصيرة نحو ثلاثة مطلوبات وهي: الإحاطة بتصاريف الأمزجة، وتحصيل المزاج الأفضل، وعلم العطاء من السبب الأول للمزاج الأفضل كيف هو وكم مقداره، فإذا أحاط علم الإنسان صلح بعد إحاطته بعلم هذه الأشياء أن ينظر في العلوم اللاهوتية”.

نستنج من قراءة تلك المقدمات أن ابن حيان كتبها بطريقة واضحة وافية بكل شروط المقدمات للكتب الحديثة، نجد أنه هو المقدم لمفاهيم الخواص التي نعرفها الآن، كما وردت في كتاب الخواص، وفي مقدمة كتاب “نخب من كتاب التجميع” يقدم جابر بن حيان -لأول مرة في التاريخ- نظرية عدم الانعكاس، والتي هي إحدى صيغ القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وهي أن كل المنظومات تسير في اتجاه واحد غير قابل للعكس، ورغم ذلك فإن الأمر لا يُنسب إليه، وفي كتاب “نخب من كتاب الميزان الصغير يذكر أن شكل العالم مدور، أيضًا هنا هو أول مَن تحدث عن كروية الأرض، أيضًا الأمر الغريب أنه لا يحظى بأنه الأول الذي تحدث عن كروية الأرض.


[1] الفهرست، ابن النديم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1997.

[2] مختار رسائل جابر بن حيان، بول كراوس، مكتبة الخانجي ومطبعتها، 1935.

[3] كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، دار الكتب المصرية تحت رقم 3 قسم الكيمياء والطبيعة صفحة 1-71.

[4] كتاب الحدود، دار الكتب المصرية رقم 3 قسم الكيمياء والطبيعة صفحة 72-86.

[5] كتاب الماجد (2) المكتبة الوطنية في باريس رقم 5099 صفحة 67 ب- 69 ب.

[6] كتاب ميدان العقل، المكتبة الوطنية في باريس رقم 5099 صفحة 29أ- 42 ب.

[7] المخطوط المحفوظ في المتحف البريطاني تحت رقم 4041 شرقيات.

[8] كتاب التجميع، المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم 5099 صفحة 149آ- 171آ.

[9] كتاب نخب من كتاب التصريف، المخطوط الوحيد، المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم 5099 صفحة 128- 129 ب.

[10] نخب من كتاب الميزان الصغير، المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم 5099 صفحة 118 آ- 128 آ.

[11] نخب من كتاب البحث، مكتبة جار الله في إسطنبول تحت رقم 1721صفحة 17آ- 18آ.

[12] نخب من كتاب الاشتمال، مخطوط المكتبة الوطنية في باريس رقم 2614، صفحة 116 آ- 118.

المصدر: .scientificamerican.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى