دور العلماء العرب في قياس محيط الأرض
تعتبر تجارب قياس محيط الأرض في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، رغم عددها القليل، من بين أكثر الأشياء التي أثارت إعجاب الغرب بعبقرية الرياضيين والفلكيين العرب والمسلمين. وكان من أهم تلك القياسات تلك التي قام بها فريق من علماء الفلك والرياضيات في عهد المأمون في بداية القرن التاسع الميلادي، ثم التجربة التي قام بها البيروني مُطَبقاً قاعدته الشهيرة.
ولم تكن محاولات العلماء المسلمين قياس محيط الأرض هي الأولى من نوعها في التاريخ، فقد سبق للعالم الإسكندري إيراتوستينس، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، أن أجرى تجربة قياس محيط الأرض معتمداً على فكرة انعدام الظل يوم الانقلاب الشمسي في مدينة أسوان جنوب مصر وبقاءه في نفس الوقت في الإسكندرية. ووجد قيمة مقاربة للقيمة المعروفة اليوم لقطر الأرض. ولا شك أن الرياضيين والفلكيين العرب قد اطلعوا على هذه التجربة ونتائجها، لذلك كان قيامهم بقياس محيط الأرض وقطرها بدافع التثبت مما ورد في كتب الأولين من قياسات باتباع منهجيات مختلفة في عمليات القياس.
أول هذه القياسات هي التي تمت في عهد الخليفة العباسي المأمون وبأمر منه. ويعتبر المأمون بلا منازع أكثر الخلفاء تشجيعاً للعلم وشغفاً به. ففي عهده ازدهرت الحياة العلمية في بيت الحكمة وزاد نشاط الترجمة والنقل وأصبحت بغداد، أكبر المدن في الإمبراطورية الإسلامية، تعج بالعلماء ودارسي العلم. وفي عهده اجتمع عدد كبير من العلماء في بيت الحكمة يمثلون شتى الاختصاصات في الطب والرياضيات إلى الفلك والفلسفة. ويذكر ابن خلكان أن مشروع قياس محيط الأرض كان ببادرة من المأمون الذي سعى للتأكد مما ورد في كتب القدماء من قياسات له ويقول: “إن المأمون كان مغري بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فأراد أن يقف على حقيقة ذلك”. فشكل الخليفة المأمون بعثتين علميتين، وأمرهما بالتوجه إلى منطقتين مختلفتين. وعين على رأس هاتين البعثتين مجموعة من علماء الفلـك المشهورين إذ ضمت الأولى سند بن علي وخالد بن عبد الملك المروذي. بينما كان في البعثة الثانية كل من علي بن البحتري وعلي بن عيسى الأسطرلابي.