ثورة التعليم المتوافق مع الثقافة والبيئة المحلية.. تجربة “لاداخ”

“في كل ركن من أركان العالم اليوم، تستند العملية المسماة بـ”التعليم” إلى نفس الافتراضات ونفس نموذج المبني على المركزية الأوروبية، حيث ينصب التركيز على حقائق وأرقام بعيدة، لمعرفة كونية، وحيث تنشر الكتب معلومات من المفترض أن تكون مناسبة للكوكب بأكمله. ولكن نظرًا لأنها نوع من المعرفة البعيدة عن الأنظمة الإيكولوجية والثقافات المحددة والتي يفترض أن تكون قابلة للتطبيق عالميًا، فإن ما يتعلمه الأطفال يكون بشكل أساسي مصطنعا، ومجافيًا للسياق المعيشي “..
هكذا تكلمت اللغوية والناشطة السويدية هيلينا نوربرج-هودج في كتابها “المستقبليات العتيقة.. التعلم من لاداخ“.
تغيير واقع التعليم
في لاداخ نفسها، والتي كتبت عنها هيلينا هذه الفقرة ترثي لحال التعليم فيها وفي كل مجتمع وثقافة وبيئة محلية على وجه الأرض، نهض أحد أبنائها في مسيرة عمرها الآن 30 عاما، ولا زال مستمرا لتغيير واقع التعليم هناك، ليس فقط ليحل أزمة التعليم في مجتمعه المحلي، ولكن ليقدم نموذجا للهند وللعالم للتعليم البديل، المتوافق مع المجتمع والثقافة والبيئة المحلية.
ففي عام 1988 تخرج مجموعة من شباب لاداخ من الجامعة، ومنهم سونام وانجتشوك Sonam Wangchuk ورآى طلاب مجتمعه الذي يقع على قمم جبال الهيمالايا شمال الهند يعانون معاناة مضاعفة ليس فقط من صعوبة التعليم، ولكن بالأخص من عدم مناسبته لغويا وموضوعيا، الأمر الذي جعل أغلبهم لا يتجاوز الصف العاشر في التعليم، ومن ثم أسس سونام مع زملائه “حركة طلاب لاداخ التعليمية والثقافية The Students’ Educational and Cultural Movement of Ladakh” والتي تعرف اختصارا باسم SECMOL، وبدأ التعامل مع تلك المشكلة، وهو التعامل الذي أخذ ثلاث مراحل:
– المرحلة الأولى، هي إصلاح الوضع القائم بالفعل:
وهي مرحلة استغرقت ست سنوات من العمل مع حكومة الولاية والمجتمعات القروية والمجتمع المدني لإصلاح النظام المدرسي الحكومي هناك عبر إعادة صياغة المناهج وإعادة تدريب المعلمين، إضافة إلى التدابير الأخرى التي اتخذتها الإدارة المحلية، وقد ساعدت هذه المبادرة في زيادة نسبة نجاح طلاب لاداخ في الصف العاشر من 5٪ في عام 1996 إلى 75٪ في عام 2015.
– المرحلة الثانية، هي تقديم تعليم أساسي بديل:
حيث بدأت SECMOL مدرسة بديلة، حيث يتعلم الطلاب عمليا من خلال القيام بالأشياء بأيديهم بدلا من تحجيم أنفسهم في حدود الكتب المدرسية التي كتبها أناس “لم تطأ أقدامهم لاداخ من قبل، ولا يعلمون شيئاً عن النمو بالكاد في مجتمعات تعيش على ارتفاع 12000 قدم ولا عن صنع المنازل هناك من الطوب المجفف بالشمس، “كما تلاحظ هيلينا نوربرج-هودج. ومن ثم ففي تلك المدرسة البديلة ينصب التركيز على التعلم الحقيقي، “حيث ينخرط الطلاب في مختلف الابتكارات التي تحل مشاكل الحياة الحقيقية” لمجتمعهم وناسهم وبيئتهم، وفي تلك المدرسة يدير الطلاب المكان بأنفسهم مثل بلد صغير من خلال حكومة مدرسية منتخبة ويتعلمون من خلال ذلك الإدارة والحكم؛ كما يتعلمون التواصل عن طريق إدارة جريدة الحرم المدرسي والإذاعة المجتمعية؛ كما يتعلمون العلوم من خلال تصميم وبناء مباني الطين المدفئة بالطاقة الشمسية الخاصة بهم والتي تبقى عند درجة حرارة + 15 درجة مئوية حتى عندما تكون -15 درجة مئوية في فصل الشتاء في لاداخ، وذلك كما يقول سونام في فيديو حول المشروع. وقد صارت مدرسة SECMOL مؤسسة شعبية للتعليم البديل، ليس فقط في لاداخ ولكن في جميع أنحاء العالم.
– المرحلة الثالثة:
مشروع معهد البدائل في الهيمالايا – لاداخ، والمعروف اختصارا بـHIAL وهو نواة لأول جامعة متوافقة مع الثقافة والبيئة المحلية في الهند، والذي بدأه سونام عام 2015، ويهدف المشروع لكسر النماذج التقليدية للتعليم العالي وإشراك الشباب من لاداخ فقط ولكن مناطق جبال الهيمالايا الأخرى، حيث تخصص الموارد للبحث والابتكارات المحلية في موضوعات مثل التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية التي تضع البيئة في قلبها.
مدارس مبتكرة
وكما يقول سونام: “مرة أخرى، سوف تكون جامعة يقوم فيها التعلم على العمل الفعلي، حيث تدير كلية الأعمال شركات حقيقية في الحرم الجامعي، وتدير كلية السياحة فنادق وأماكن إقامة بسيطة، أما كلية التعليم فتدير مدارس مبتكرة، على أن تقوم “عائدات هذه المشاريع بدعم الجامعة، بينما يحصل الطلاب على التعليم العالي المجاني والخبرة العملية”. المشروع يلقى دعما محليا، كما تقوم إدارة المشروع بحملة للتمويل الجامعي له على موقع ميلاب Milaap، كما تبرع سوناب يقيمة الجائزة التي حصل عليها من رولكس، ومن المتوقع أن يشرع القائمون على المشروع في البناء قريبا على الـ120 فدان التي منحتها إياها حكومة الولاية، ومن المستهدف أن تتسع الجامعة لـ 6 آلاف مقيم، حيث سيتم تشييد جميع المباني باستخدام تقنية تقليدية لبناء الأساس والأرضيات والجدران باستخدام المواد الخام الطبيعية، مع تصميم المبنى بحيث يستوعي الطاقة الشمسية السلبية، مع تلبية متطلبات العزل والأسقف تجعل منها بمثابة الدفيئات.
تلك الجامعة ستكون إذا مغامرة فريدة من نوعها من شأنها إحداث ثورة في التعليم العالي ليس فقط في لاداخ بل في باقي البلاد.