توقع دراسة علمية.. تغير جوهري في أساليب الدراسات الاكاديمية في المستقبل بفعل انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي

توقعت تقارير علمية صادرة عن مؤسسة Educause Quick Poll عام 2021، إن العولمة الرقمية التي يشهدها العالم المعولَم قد فرضت تغير جوهري في أساليب الدراسات الاكاديمية في المستقبل بفعل انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي. إذ أن تلك التكنولوجيات والتقنيات الحديثة منها التطبيقات والبرمجيات الجديدة وضعت لنا قواعد عمل جديدة من خلال استخدامها لأغراضٍ عمليةٍ أو علمية.
ففي هذا الصَدَد لا يمكن بأية حال من الأحوال الإستغناء عن تلك التقنيات الإفتراضية التي حوَّلت بدورها العالم الواقعي برمَّته إلى عالمٍ إفتراضي مُتكامَلِ الأبعاد والأهداف. فأكبر المُستفيدين من كل تلك التكنولوجيات والتقنيات الحديثة كان بالدرجة الأولى قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، بحيث زادت مؤخراً استخدامات تطبيقات القاعات الإفتراضية والتعليم عن بُعد داخل أغلب المؤسّسات الجامعية العالمية، خاصة منها في الدول المُتقدّمة مثل الإتحاد الأوروبي، كندا، الولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج العربي.
لاحظت مؤخراً الأستاذة الجامعية باتريشيا يونغ؛ التي امتهنت التدريس في جامعة ميريلاند الأمريكية، أن الكثير من الجامعات الأمريكية؛ سواءً في الشمال أو الجنوب، لا سيما في كليات العلوم التقنية والمعلوماتية، بات الأساتذة الجامعيون فيها، يستخدمون ما هو أشبه “لأفاتار” دون الرغبة في الحضور الشخصي المباشر.
بمعنى أن باتت المحاضرة مُسجلة، أو عن بُعد ولا حاجة للأستاذ للتواجد بشكل حقيقي فيزيائي.
وكون باتريشيا من المهتمات بمجال تقنيات التعليم الجديدة، فإنها قد وضعت ثلاثة أسباب رئيسية، لكون المستقبل التعليمي سيحوي عددًا أقل من الأساتذة الجامعيين:
أولًا: صعود الذكاء الاصطناعي بقوة على الساحة التعليميّة
وجدَ أحد التقارير الصادرة عن مؤسسة Educause Quick Poll لعام 2021، أن المؤسسات والمعاهد المعنية بالتعليم ومخرجاته، باتت تخصص جزءًا أكبر من استثماراتها، من أجل التركيز على تقنيات الذكاء الاصطناعي، متجاوزةً الاستخدام المحدود الذي كان يشغله فيما مضى.
إذ كان يقتصر مسبقًا على مواضيع المراقبة، والتحقق من الهوية والانتحال وما إلى هنالك. أما الآن فقد توسع وتمدد ليشمل المُجيبين الآليين والمساعدين، وغيرها من التقنيات التي تساعد على تعليم الطلبة والرد على استفساراتهم.
ترى باتريشيا، أن هناك أهمية لتوسيع استخدام الذكاء الاصطناعي ليشمل نواحي ملموسة في حياة الطلبة، فمثلًا، كيف يمكن للكليات توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين عملية تعلّم الطلاب للتفاضل والتكامل؟ كيف يمكن توظيف هذا الذكاء من أجل جعل الطلبة يكتبون بشكل أفضل؟
إلا أنه للأسف، بعض الجامعات ذات نهج تقليدي، وتنقصها جذوة المجازفة نحو الابتكار.
ومن المعوقات التي تطرّق لها الاستبيان السابق، هي تلك التي لها علاقة بالتجهيزات الفنية، والدعم المالي، ونقص وجود خبرات قيادية قادرة على التحكم بخوارزميات ذلك الذكاء.
ويعتبر معهد ماساتشوستس للتقنية، ومعهد رينسيلار للتقنيات التطبيقية، في مقدمة المراكز التعليمية التي تسعى لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الطرق التدريسية.
إذ يقوم معهد رينسيلار بخلق بيئة افتراضية لسوق شعبي مفترض ضمن الصين، ليقوم بعدها الطلاب المتواجدون ضمن هذا المعهد بتعلّم اللغة الصينية -الماندرين- بالتفاعل مع “أفاتارات” افتراضية لشخصيات موجودة ضمن ذلك السوق.

أما معهد MIT فقد ضخّ ملايين الدولارات لتُصرف على الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. وأحد تلك الأبحاث معروفة باسم «Responsible AI for Social Empowerment and Education» ليعمل على تمكين الذكاء الاصطناعي في بيئة التعليم الأكاديمية أو الاجتماعية بشكل عام.
من خلال كل هذا، يمكننا أن نرى بوضوح أن الأساتذة الجامعيين أصحاب الشوارب الكثة في طور الأفول، وغالبًا لن يأتي أحدٌ ما مكانهم لأن شواغرهم ستُملأ بتقنيات غير بشرية. خصوصًا أن الجامعات بدأت تنحو تجاه استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والابتعاد عن التقليدية في الأسلوب التعليمي.
ثانيًا: تراجع النمط الأكاديمي التقليدي
يحمل المدرس والأستاذ الجامعي في أي بلد حصانة كبيرة، تمنع الكثيرين من محاولة نقده أو المساس بهِ. إلا أن هذه الهيبة المفروضة منذ زمن، قد تآكلت في الآونة الأخيرة خصوصًا فترة وباء كورونا.
حيث صوتت ولاية كنساس في هذا العام، لإعفاء بعض الأساتذة الجامعيين ضمن بعض الجامعات وذلك لتخفيف الأعباء المالية عن الجامعات في فترة الوباء.
إذ تشير التقارير المجراة ضمن الولايات المتحدة الأمريكية، أن الأساتذة الجامعيين المتعاقد معهم بعقود ثابتة طويلة الأمد قد تقلّص في السنين الأخيرة. إذ زادت نسبة الأساتذة المدرسين بعقود جزئية في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1975 – 2015، من الرقم 55% إلى الرقم 70%!
في حين انخفضت التعيينات للأساتذة بدوام ثابت من نسبة 45% إلى 30%.
فيبدو أن الجامعات قد استخدمت الوباء كحجة لصرف أولئك الأكاديميين الذين لم تعد مقاعد الدراسة بحاجة لهم، فكان أول فيروس قادم هو ورقة الإعفاء الخاصة بهم. لتحافظ بذلك الجامعات على أولئك المدرسين النشطين أصحاب الكفاءات، وتقيل أولئك الذين لم يعودوا مهمين.
ويبدو أيضًا أن أصحاب الكفاءات أيضًا، سيأتي يومٌ لهم، وسيُفعل بهم كأقرانهم السابقين أيضًا.
ثالثًا: انتشار تقنية التعليم المعكوس
التقنية الجديدة الدارجة في المجال التعليمي، لا سيما في تلك البلدان الرائدة في تطويره والاهتمام بنفسية الطالب والتلميذ، كحال الدول الاسكندنافية مثلًا.
يقصد بتقنية التعليم المعكوس أو المقلوب، أنها الطريقة في التعليم المعاكسة للطريقة التقليدية، والتي تقلل من أهمية وجود محاضر أو شخص ما ملقّن للمعلومات، وتعتمد على التفاعل ما بين الطلبة أنفسهم.
فلا حاجةً كبيرة لوجود أستاذ جامعي يملي عليك بشكل مباشر ما يجب دراسته وما لا يجب، يكفي أن يكون هناك تسجيلات مرئية لهُ، تسمع من قبل الطلاب، ثم ينتقلون لاتجاهات تفاعلية أخرى، كأنّ يتحلقون حول أنفسهم مع طلاب آخرين ويتناقشون في تلك الأفكار، أو حتى يبحثون عنها عبر الإنترنت ويرَون ما الجديد فيها.
تنمّي هذه الطريقة عدة مهارات عند الطالب، أبرزها التفاعل الاجتماعي مع الآخرين والنقاش، إضافةً لفكرة البحث والسعي وراء المعلومات بشكل شخصي وفي سن مبكرة أيضًا.
إذ تغير العالم كثيرًا، ونحن نعيش الآن في عالم تسيطر عليه فيديوهات تيك توك، ويوتيوب، وغيرها من وسائل الترفيه المرئية، فلمَ لا تصبح هذه الوسائل أو أشباهها هي تقنيات التعليم نفسها؟ فالبعض يقول ممتعضًا، اليوتيوب للترفيه، وكفى إضاعةً للوقت عليه!
هل تعلمون لماذا؟ لأن أصحاب التعليم أساسًا لم يهتموا باليوتيوب ولا غيره من الوسائط! فباتت مكانًا للترفيه لا أكثر، كونهم بعقول تقليدية جدًا، ولا ينقلون طرق تدريسهم للوسائط الجديدة المبتكرة!
تسيطر تقنية التعليم العكسي على التوجهات الحديثة بشكل لافت، إذ يقتصر دور الأستاذ الجامعي على محاضرات مسجلة ولا داعي لأن يكون حاضرًا فيزيائيًا ضمن الصف، يكفي وجود صوته أو صورته فقط.
وربما تصبح مرتبات هؤلاء الأساتذة مقتصرة على عدد الساعات المسجلة التي يصورنها، فقطعًا لن تحاسبهم الإدارة الجامعية بشكل شهري طالما أن المادة المعطاة مكررة، ومسجلة نفسها في كل سنة! كل هذا يقودنا لأن هناك تغيير شبه جذري سيأتي في السنوات أو العقود القادمة، ليقلب نمط التعليم القائم برمته.
فالأسباب تتعدد وتختلف تبعًا لكل بيئة وبلد، إلا أن صعود الذكاء الاصطناعي بقوة على الساحة، وإمكانية وجود تسجيلات مرئية ذات جودة عالية مدعومة بشرائح العروض التقديمية وغيرها من الفيديوهات، سيساهم في تفضيل التعليم الإلكتروني على نظيره التقليدي.
ناهيك طبعًا عن الأوبئة التي أثبتت أن مثل هكذا خطوات -تسريح بعض الأساتذة- كان ينبغي أن تُتخذ منذ زمن وليس الآن، وليسَ انتهاءً بالتقنية المبتكرة لدى الطلبة، كالتعليم المعكوس، التي تنمي مهارات البحث لدى الطالب، في عالم بات فعلًا يتجه نحو خلق جيل قادر على البحث والوصول إلى المعلومات بأقل جهد مبذول ممكن.

التحديات
تبقى هناك بعض التحديات خاصة منها هشاشة البنية الرقمية في بعض الدول التي تعاني من نقصٍ في الإمكانيات للتزوّد بخدمات شبكة الإنترنت نظراً لاعتمادها المباشر كوسيلةٍ لإيصال المعلومات العلمية والإتصال المباشر بين الأساتذة والطلبة من أجل شرح الدروس عن بُعد، أو أيضاً لنقص أدوات العمل المُتطوّرة جداً مثل جهاز حاسوب مُجهَّز بكل التقنيات.
كذلك هناك بعض النفوس المريضة والحاقِدة لا تريد أن تتعلَّم عن بُعد بل تسعى إلى التشويش وتعطيل سَيْر الدرس عن بُعد مع إثارة الشغَب خاصة منها في بعض الدول العربية. إذ هنا تكمُن الخطورة لأن الأستاذ لا يمكنه السيطرة على البرمجية بحيث أنه يصبح غير متواصِل مباشرة مع الطلاب ولا يمكنه تحديد مصدر الإزعاج للتخلّص منه ما يتسبَّب في تعطيل وصول الصورة والصوت أحياناً، بحيث تتعطّل حصّة الدرس باستمرار أو بالكامل.
فالتحديات تكمُن في جوهرها، إما مادياً من خلال التزوّد بأدوات العمل عن بُعد اللازِمة بالنسبة للأساتذة أو اتصالاتياً من خلال تعطّل سَيْر الدرس صوتاً وصورة بالنسبة للطلبة، ما تشكّل بدورها عائقاً إضافياً لمواصلة شرح الدروس عن بُعد بالنسبة للأساتذة.
بالإضافة إلى ذلك تعتبر الجدية في التحصيل العلمي مفقودة من جانب الطلاب خاصة منها في الدول العربية بحيث تفقد الثقة العامة بين جميع الأطراف من مؤسّسات جامعية وطلاب وأساتذة. فالتجربة ما زالت في طور بدايتها في بعض الدول الخليجية، أما في دول شمال إفريقيا فهي تكاد تكون غائبة تماماً وتقتصر فقط على التعليم الجامعي داخل بعض الجامعات الإفتراضية المستقلة المُخصَّصة للغرض.
أما الدول المُتقدّمة فهي قد قطعت أشواطاً طويلة على درب تطوير المحتوى في برمجيات القاعات الإفتراضية داخل الجامعات التقليدية بصفةٍ كاملةٍ وشاملة. بالنتيجة أصبح الطالب قادِراً على الاختيار داخل تلك الجامعات بين التسجيل الجامعي للتعلّم عن بُعد من دون حضور إجباري داخل القاعات الإفتراضية عن بُعد، أو التسجيل في السنة الجامعية للتعلّم الكلاسيكي داخل القاعات التقليدية. أما الإختبارات المرحلية فهي تتمّ في نفس الظروف وبالحضور الإجباري والإلزامي لجميع الطلبة داخل القاعات التقليدية وبمُراقبة مباشرة من المؤسّسات الجامعية.
المصدر: