مقالات

وضع منظومة العلوم والتقنية في العالم العربي

بصفتها جزء من منظومة العلوم العربية تتحدث فى هذه الدراسة الأستاذة الدكتورة موزة بنت محمد الربان رئيسة منظمة المجتمع العلمي العربي عن وضع هذه المنظومة من الداخل، كما تراها، ولأنها ترى أن المشكلة أعمق بكثير من قضية تمويل البحث العلمي أو قلة الاختراعات والتي هي نتيجة وليست سبب. تحاول توضيح أن العلميين العرب لا تتوفر لهم البيئة التمكينية اللازمة للإنتاج الحقيقي والمفيد للمعرفة، وبالتالي لا تنتج بحوثهم في معظمها أي فائدة تذكر لاقتصاد دولهم ومنفعة مجتمعاتهم، ولا تمكنهم من المنافسة العالمية والانخراط في المجتمع العلمي العالمي:

تحرص الدول العربية ليكون لها اسم وترتيب أعلى في التصنيفات العالمية للجامعات وفي زيادة عدد البحوث، أو في نسبة ما يخصص للبحث من الناتج الوطني…، كل هذا جيد ولا شك، ولكنني أراه شكلياً فقط، لأن المظاهر والتفاخر ورأي الآخرين هو المهم لدى غالبية المسئولين العرب. ومن يريد الإصلاح الحقيقي يجب أن يفكر بعمق ويقول الحق ولوكان مراً.

لنبدأ القصة من مدارس التعليم قبل الجامعي، ومنظومة التعليم بكل أركانها من مناهج وإدارات ومعلمين وبنية تحتية، وأهمها الغاية العليا، كلها تعاني من الضعف والعشوائية ولا تقودها رؤية وطنية وهدف أسمى…، وليس هنا مجال البحث فيها، وإنما تهمنا مخرجاتها وهم الطلاب المتخرجون من تلك المدارس. البعض ينخرط في سوق العمل، وغالبا لا يكون مؤهلا. والبعض يسجل في جامعات عربية أو يسافر للخارج لإكمال دراسته في جامعات أجنبية، وهؤلاء يبقى معظمهم في الخارج ولا يعود للوطن. أما الذين يدرسون ويتخرجون من الجامعات العربية، فبعضهم ينخرط في سوق العمل والذي غالبا ما يكون بعيدا عن تخصصه الذي درسه في الجامعة، أو أن ما درسه في الجامعة بعيدا عن التطبيق العملي حتى وإن كان في نفس التخصص، لعدم ربط الجامعات بالمجتمعات والبلديات وسوق العمل في معظم الحالات. والبعض يكمل دراسته العليا في جامعته أو يسافر للخارج لإكمال دراسته هناك، وهؤلاء غالبا لا يعودون إلى أوطانهم، ومنهم من يعود.

إذن، لو تأملنا الصورة إلى حد الآن، نجد أن الدول العربية تنفق مليارات الدولارات على التعليم الأساسي والجامعي وغالبه رديء وضعيف، وتصدّر للخارج أفضل طلابها وعقولها جاهزة. في هذا البحث، نحن نركز على الباحثين في المجالات العلمية سواء العلوم الأساسية أو الطب والهندسة والتقنيات المختلفة. وكما ذكرنا، أن أفضل العقول العربية تبقى في الخارج لتبدع هناك في بيئة مناسبة لها، وبالتالي فإن الإنتاج العلمي لهذه العقول والطاقات العربية يصب في خدمة مشاريع تلك الدول ويحسب كل انتاجهم لمؤسساتهم الأجنبية التي يعملون فيها. يسمي البعض هذا “هجرة العقول” أو “نزيف الأدمغة”، وهو عملية طبيعية إلى حد ما، لها عيوبها ولها فوائدها إذا استُغلت بالشكل الصحيح. لكن المشكلة الكبرى هي هجرة العقول أو تعطيل العقول في الداخل.

لنعود إلى أولئك الباحثين الذين يعملون في الجامعات والمؤسسات البحثية في داخل الدول العربية، وهم الذين تحسب عدد أوراقهم البحثية المنشورة، والذين يطالبون بزيادة الإنفاق على البحث العلمي من أجل ما ينتجون، وهم الذين يمثلون منظومة البحث العلمي في الوطن العربي، وهم موضوع هذه الورقة.

الكثير من هؤلاء يكون ضمن شبكة بحثية خارجية، بمعنى أن هناك مجموعة بحثية في دولة أو دول أخرى لديها مشروع بحثي يشارك الباحث العربي معهم في هذا البحث، وبالتالي يكون اسمه على الورقة ضمن المؤلفين، واسم جامعته واسم دولته كذلك، وتدخل هذه الورقة ضمن احصائيات الإنتاج العربي، رغم أن المشروع برمّته يخدم جهة خارج الوطن العربي. في هذه الحالة وهي شائعة جداً، الباحث يتعاون بصفته الشخصية مع تلك المجموعة البحثية، وليس كجزء من مشروع بحثي مشترك بين جامعته والجامعات الأخرى، أي أنه يُسخّر وقته وجهده وربما أجهزة جامعته لخدمة مشروع أجنبي، والمكسب الوحيد هو تسجيل اسمه واسم جامعته ودولته في الاحصائيات، كما ذكرنا. وربما يكون أن هذا البحث رفيع المستوى فتحصل الورقة على عدد كبير من الاقتباسات ويكون اسم ذلك الباحث ضمن الباحثين الأكثر اقتباسا. كل هذا جيد ومفيد، ولكن ماذا استفادت الجامعة والدولة من نتائج هذه الورقة البحثية؟ فقط احصائيات!!!

بعض الجامعات، ومراكز البحوث العربية لديها مشاريع خاصة يعمل فيها باحثون عرب وزائرين، وتنتج أوراقاً بحثية على مستويات مختلفة بعضها عالي المستوى، تنشر تلك الأوراق في مجلات علمية عالمية، وتدخل ضمن احصائيات وقواعد بيانات البحوث العالمية، بأسماء الباحثين فيها ومؤسساتهم ودولهم، وهذا طبيعي وجيد أيضاً. ولكن، ماذا يحدث لتلك الورقة سوى دخولها في تلك الاحصائيات وزيادة رقم في انتاج المؤسسة البحثية؟ نعم، سوف يطلع عليها الباحثون المهتمون في العالم ويقتبسون منها ويضيفون ويبنون عليها لتخدم مشاريعهم البحثية والاقتصادية في دولهم، وهذا جيد وهو أمر طبيعي أيضاً. ولكن، المؤسسة البحثية العربية والدولة التي تحتويها وتنفق عليها سوف تكتفي بذلك.

 فمثلاً، مشكلة تلوث البيئة وتلوث المياه مشكلة عالمية، وتعمل كثير من مراكز البحوث حول العالم لحل المشكلة وبطرق مختلفة، منها على سبيل المثال، تطوير أغشية ومواد نانوية أو مواد متطوره لها خواص استثنائية ومفيدة. وتوجد في كثير من الدول العربية مراكز بحوث متخصصة في هذا المجال وتنفق عليها ملايين الدولارات سنويا، وتصدر عنها أوراقاً بحثية عالية المستوى أيضا. وتكتفي مؤسساتنا العلمية بتقديم هذه النتائج لمراكز البحوث العالمية والشركات المصنعة في العالم، من خلال النشر في المجلات العلمية أو العرض في المؤتمرات العالمية، ليستفيد منها من لديه القدرة على تحويل المعرفة لمنتج.

فهل فكرت أي دولة عربية بتبني تلك النتائج وتطويرها لبناء محطات لتنقية المياه أو تحليتها، مثلا؟ لا، بل إنها تنتظر حتى يقوم الآخرون بذلك ثم تشتريها منهم.

فلو تأملنا في هذا الوضع، سنجد أن “الباحث العلمي” حقيقة وإن كان يعمل داخل مؤسسة علمية عربية فهو يعمل لصالح منظومات العلوم العالمية، ولا تستفيد الدول العربية والمجتمعات العربية مما تنفقه على ذلك الباحث وبحوثه إلا باليسير.

ومن المؤكد هنا، أنني لا ألوم الباحث العربي ولا أقلل من دوره ولا أدعو لعدم الانفاق على البحوث، بل العكس تماما هو ما أعنيه. إن هذه الدول العربية تمتلك العقول والأدوات لكي تنطلق ولكنها وللأسف، لا تريد، سواء وعت ذلك أم لم تعه. وذلك لعدم توفير البيئة التمكينية المناسبة للعلميين وبناء المنظومة المتكاملة لذلك.

 عدم وجود رؤية واضحة وقناعة حقيقية لدى متخذي القرارات وواضعي السياسات في الدول العربية بأهمية العلم للبقاء وليس للعيش فقط، له تداعيات كارثية على المجتمع العلمي والأمن القومي لهذه الدول. 

إن الباحثين العرب وخاصة المتميزين منهم، داخل الدول العربية يعانون من الظلم والتهميش، مما يضطر الكثيرين منهم للهجرة. بداية المطاف، المدارس والجامعات العربية لا تربي في طلابها التفكير الناقد والمنطقي الذي يتطلبه البحث، ولا محبة البحث العلمي وتقاليده، ولا تدربهم على تقنياته وأدواته، فهذه أمور يحتاجها الباحث، وهي ليست ضمن المادة العلمية التي تدرس له، كما هو معلوم، ولكنه أسلوب ومناهج تدريبية، تبدأ بتدريب المدرسين.

 وعندما يتخرج الطالب المبدع من جامعته أو من الخارج ويعود، يواجه بعقبات كأداء من كل جانب، خاصة من النظام الإداري في الجامعات الذي يحمّل الباحث من الأعباء الإدارية والتدريسية ما لا يسمح له بأي فرصة لتطوير ذاته أو متابعة البحوث العلمية العالمية أو فرصة حضور المؤتمرات العلمية والمشاركة فيها، فيبقى معزولاً إلى حد ما، ولا تتوفر له السرعة المطلوبة في متابعة المستجدات في مجال تخصصه. بالإضافة إلى هذا، يُحارب الناجح والمتميز على كافة الصُعد، لأن نظام التقييم في هذه الدول لا يعتمد على الكفاءة أصلا، والكل يحرص لتقلد المناصب العليا ويرى في أي شخص متميز منافسا له. وكل هذا يعود إلى النظام القائم والثقافة التي تحتاج لكثير من الإصلاح. ولعدم وجود المنظومة والهدف والقوانين التي تحكم المسارات العلمية والوظيفية.

هذا فضلا عن عدم توفر إمكانيات البحث وأهمها خطط استراتيجية للعلوم، وعدم وجود انتاج صناعي في هذه الدول يحتاج للبحث والتطوير من أجل المنافسة في السوق أو حل المشكلات المحلية البيئية والصحية وغيرها، مما يوفر دعم للبحث من قِبل تلك المصانع والشركات. فيجد الباحث نفسه يجتهد في البداية للحصول على ترقية بأي ثمن حتى وإن كان لا يستحقها علمياً، ثم يتوقف أو يفقد الحماس. هذا، ان استمر في عمله في المؤسسات البحثية، وإلا فإنه سوف يترك الجامعة لوجود فرصة عمل أفضل، حتى وإن كانت خارج نطاق العلوم التي أفنى زهرة شبابه في تعلمها، والتي أنفقت عليها الدولة من قوت شعبها ملايين الدولارات لإنتاج كفاءة لن تستخدمها في شيء. أو ربما، تعيّنه الدولة خارج مجال تخصصه أصلا وبعيدا عن مجال البحث العلمي. وفي جميع الحالات، هو تعطيل أو هجرة للعقول والأدمغة داخلياً، هي أخطر وأسوأ من الهجرة البدنية إلى الخارج. 

لقد كشفت أزمة الجائحة الحالية كوفيد –19 الكثير من الضعف والخلل في منظومة العلوم والبحث العلمي العربي. فبالرغم من وجود (مراكز بحوث طبية) في كثير من الدول العربية ووجود إمكانيات تقنية وفنية وعلمية، لم تفكر دولة عربية واحدة في محاولة انتاج لقاح أو علاج كباقي دول العالم، وكل بحوثها تنشرها ليستفيد منها الآخرون في تطوير أعمالهم، وكأنه محرم على هذه الدول إنتاج أي شيء ينفعها. وعندما حدثت أزمة في عدد أجهزة التنفس في بعض الدول في العالم، أوقفت المصانع فيها انتاجها، وحولت خط الإنتاج لصناعة تلك الأجهزة. أما دولنا العربية حيث لا مصانع ولا تخطيط، نجد الغنية منها (اشترت) وتبرعت لدول أخرى بتلك الأجهزة، أما الأخرى، فلا هذا ولا ذاك. وهذا مثال فقط، وإلا فالقائمة تطول والوضع لا يخفى على أحد.

في ظل هذا الوضع الذي رسمنا معالمه أعلاه، يتجلّى عدم تبني الحكومات العربية العلم واقتصاد المعرفة بوصفه أحد أسس التنمية في البلدان العربية. من هنا يحق لنا أن نتساءل عن الهدف من البحث العلمي في البلدان العربية؟ لماذا تُشيّد الجامعات والمختبرات، وتنفق المبالغ الضخمة على البحوث؟ هل الهدف أن تتسابق الجامعات العربية لتجد لها مكانا في قوائم التصانيف العالمية؟ أو زيادة عدد الأوراق البحثية المنشورة من تلك الجامعات؟ أم أن الهدف مرتبط بالتنمية الإنسانية العربية أساسًا، والمساهمة في الاقتصاد العربي، وتحقيق الأمن بمفهومه الواسع، والاكتفاء الذاتي؟ ودخول ميدان التنافس العالمي المحموم في العلوم ونواتجها؟

عند الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا معرفة طريقنا وهل نجحنا فيه وما هو مستقبلنا المرتقب. فإن كان الهدف الذي تضعه الحكومات العربية هو الأول، فإن الكلام سيتوقف هنا. أما إن كان الهدف هو الثاني، ونرجو ذلك، فإن الأمر جد جلل، ويحتاج إلى وقفة وتأمل.

منذ منتصف القرن العشرين وما أُطلق عليه “الاستقلال” والحكومات العربية تبني المؤسسات العلمية، التعليمية والبحثية والتطبيقية، وتنفق مليارات الدولارات على التعليم والبحوث العلمية، فأين موقعنا اليوم في العالم من الناحية العلمية والبحثية؟ أكثر من سبعين سنة، ماذا أنتجت؟ إن النتيجة الفعلية هي البرهان على مدى سداد الرؤية والسبيل. واستقراء الواقع يبين بوضوح هل هذا هو الطريق الصحيح؟ أم يجب إعادة النظر وتصحيح المسار؟ ومعلوم أن التعليم بدون مخطط تنموي شامل لا يؤدي إلى شيء.

لقد ازدادت أعداد الجامعات وازدادت أعداد الأوراق البحثية المنشورة من الباحثين في تلك الجامعات والمؤسسات العلمية كما بيّنا ذلك أعلاه. قد يعود ذلك إلى اتخاذ عدد من الدول العربية قرارات بزيادة الانفاق على البحث العلمي، انعكست بزيادة ملحوظة في عدد الأوراق المنشورة وعلى معدل النمو فيها ككل. ولكن، كم هو مقدار ما تستفيد الدول العربية نفسها من الإمكانيات المتوفرة لديها في تحقيق التنمية المستدامة من خلال اعتمادها على قدرات وإمكانيات مواطنيها من العلماء والباحثين؟

 إن زيادة عدد الأوراق العلمية المنشورة ليس غاية في حد ذاته، إذا لم تُستخدم هذه الأوراق والعقول والجهد والمال لتحقيق التنمية الحقيقية والمستدامة، وبناء مؤسسات تحوّل هذه البضاعة العلمية إلى منتجات تعود بالنفع على المجتمع، وهذا يستلزم تطوير التشريعات والقوانين التي تحكم كل هذا. ومما لا شك فيه، أن الدول العربية تمتلك الآن رأس مال بشري هائل، وإمكانيات بحثية كبيرة وليست بحاجة إلى الانتظار ثلاثين أو خمسين سنة أخرى حتى تدرب جيلا جديدا من العلميين في جامعات تجارية خاصة أو أجنبية لتستطيع تحقيق التنمية. وفي هذا الصدد، يذكر أنطوان زحلان في كتابه العلم والسيادة: “لن أكون مهتمًا بأن لدينا أشخاصًا أميين في البلدان العربية، ولكن بالأحرى ماذا نفعل بأكثر من 200 مليون متعلم، وبأكثر من 200 ألف من حملة شهادات الدكتوراه”.

وأنا أقول، لن أكون مهتمةً بأن نسبة عدد البحوث المنشورة من البلدان العربية إلى عدد السكان ما زالت أقل من النسبة العالمية أو حتى من النسبة في دول الجوار، ولكن بالأحرى ماذا كان مردود أكثر من 670 ألف ورقة بحثية منشورة من البلدان العربية خلال العشرين سنة الماضية (2001 – 2020) على اقتصاد تلك البلدان وأمنها؟

هل تحسنت نوعية حياة المواطن العربي بشكل عام، وارتفع دخله وتحسنت صحته وبيئته (هنا طبعا نستثني الاقتصاد الريعي للدول النفطية)؟ وهل استطاع المجتمع في الدول العربية حل مشاكله واستطاع تحقيق الأمن المائي والغذائي والصحي والقومي والعسكري وغيره بنتائج بحوث مؤسساته البحثية؟ وهل استطاعت الدول العربية أن تكتفي ذاتيًا وتحقق لنفسها ولمواطنيها عدم الاعتماد والارتهان للغير، وأصبح قرارها بيدها؟ وهل استطاعت الدول العربية أن تبني الإنسان المتعلم الواعي الذي يمتلك القدرات التي تؤهله للبناء والتنمية واتخاذ القرار الصحيح؟ وهل حققت الدول العربية التنمية المطلوبة، كما حققتها دول أقل منها من ناحية الموارد والإمكانيات والتي بدأت مسار التنمية بعد بعض الدول العربية بعقود وهي اليوم في مقدمة الدول، مثل سنغافورة والصين وكوريا وغيرها.. وليست إيران وتركيا عنا ببعيد؟

هل يوجد تكامل وتعاون بين الدول العربية في مجال البحوث العلمية؟ أو بمعنى آخر هل توجد خطة استراتيجية عربية وسياسة علمية متكاملة ومدروسة للبحث العلمي على مستوى الوطن العربي؟ وهل يوجد لدى الحكومات العربية مستشارين علميين يمثلون المجتمع العلمي العربي والوطني، جمعيات علمية مستقلة وقوية، لأخذ رأيهم العلمي قبل اتخاذ أي قرار أو بناء أي مشروع أو خطة تنموية؟ وهل تأسست شركات وطنية تنتج على أسس علمية وبحثية تقوم بها بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية العربية؟ وهل اعتمدت اللغة العربية للتعليم والبحث العلمي والذي يعتبر أساسًا لبناء مجتمع المعرفة في الدول العربية وما يترتب على ذلك من نهضة حضارية شاملة؟ هل تم توطين العلم في أوطاننا العربية؟ وهل يعمل العلميون العرب في تواصل مع زملائهم من العلميين العرب أو المجتمع الذي ينتمون إليه، وهل تربطهم ببعضهم البعض وشائج وقنوات اتصال؟ وفي تلك الحالة، هل هي قنوات عربية أم أجنبية؟ هذه فقط أمثلة، لأسئلة يمكن أن تطرح، لمراجعة وضع ومسار التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي.

مما لا شك فيه ومما يؤسف له أنّ معظم –إن لم يكن كلّ– الإجابات على ما سبق هي النفي…مما يبين قتامة الصورة الحالية والمستقبلية للبحث العلمي العربي إن لم تتخذ الحكومات العربية من جانب ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التجارية والنقابات المهنية والمصارف من جانب آخر، قرارًا جادًا ونافذا لتوطين العلم وإعادة الاعتبار إليه، كما كان في عصر الحضارة العربية أو كما هو حال الدول المتقدمة والناشئة اليوم، وتبني سياسات اقتصادية مبنية على الاعتماد على الذات. هذا، ولا ننسى أهمية ومركزية الوعي المجتمعي بالعلم وأن يكون العلم، كما كان، جزءًا أساسيًا في ثقافة المجتمع.

جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003، تحت عنوان “نحو إقامة مجتمع المعرفة” ما يلي: “ورغم أن البلدان العربية استثمرت أكثر من 2500 بليون دولار بين عامي1980 و1997، في بناء المصانع والبنية التحتية بشكل أساسي، فإن معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد قد انخفض بالفعل خلال تلك الفترة. فهذه الاستثمارات لم تؤد إلى انتقال حقيقي للتقانة، لأن ما تم نقله هو وسائل الإنتاج لا التقانة ذاتها ومن أهم المشكلات التي أدّت إلى هذا، عدم وجود نظم فعّالة للابتكار ولإنتاج المعرفة في البلدان العربية، وغياب سياسات رشيدة تضمن تأصيل القيم والأطر المؤسسية الداعمة لمجتمع المعرفة. وقد عمق من هذه المشكلة الاعتقاد الخاطئ بإمكانية بناء مجتمع المعرفة من خلال استيراد نتائج العلم دون الاستثمار في إنتاج المعرفة محليًا، والركون في تكوين الكوادر العلمية على التعاون مع الجامعات ومراكز البحث في البلدان المتقدمة معرفيًا، دون خلق التقاليد العلمية المؤدية لاكتساب المعرفة عربيًا”.

هذه النظم الفعّالة للابتكار وإنتاج المعرفة والسياسات الرشيدة التي تضمن تأصيل القيم والأطر المؤسسية الداعمة لمجتمع المعرفة، لا تزال غائبة عن واقعنا العربي، ورغم الكثير من التقارير الأممية والمتخصصة والكتب والندوات ومناشدة ذوي الاختصاص من المفكرين العرب وغيرهم، التي تدعو لتعديل الوضع الراهن، إلا أن غالبية واضعي السياسات في الدول العربية لا يلتفتون إليها. وغياب الديمقراطية وحق إبداء الرأي والمشاركة الفعلية في وضع السياسات ووسائل تنفيذها، وإسناد الأمر إلى غير أهله يحرم تلك الدول وحكوماتها ومواطنيها من ثروات ومنافع لا تكاد تحصى، بل ويسبب مشاكل وتدهور في الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، كما هو مشاهد اليوم. 

 ومما هو مشاهد حول العالم، نمو دول وتكتلات بصورة واضحة لم تكن في موضعها الحالي قبل سنوات، بل كانت أقل من بعض الدول العربية في مؤشرات البحث والاقتصاد، منها على سبيل المثال الصين ودول نمور آسيا. لقد استطاعت هذه الدول وبرؤية سياسية حكيمة بناء مجتمع علمي (وطني) فيها واقتصاد (وطني)، عبر سياسات (وطنية) للتكنولوجيا، ونظام (وطني) فعّال للعلم والتكنولوجيا. أي بناء وتطوير المنظومة والبيئة التمكينية للمجتمع العلمي الوطني. وللأسف، لم تقم أي دولة عربية أو تجمع عربي بإجراءات مماثلة، رغم توفر الإمكانيات وإنفاق ملايين الدولارات، هباء.

مما هو معلوم أن الشجرة لا تثمر إذا لم تكن جذورها ثابتة في أرضها، وكذلك المجتمع العلمي لن يثمر إذا لم توطن المعرفة في أرضه، وإذا لم يبنِ لنفسه وبنفسه تقاليده البحثية الخاصة به. وتوطين العلم يستلزم التعليم والبحث والتفكير باللغة العربية، كما يستلزم الانتماء للثقافة والحضارة الإسلامية العربية من خلال البحث في تاريخ وفلسفة العلوم في تلك الحضارة العظيمة، بالإضافة طبعا لبحوثه الخاصة بحاضره ومستقبله.

ومن المضحك المبكي، أن بعض قادة الدول العربية عندما أرادوا تطوير التعليم والبحث العلمي في دولهم، استعانوا باستشارة خبراء وشركات (أجنبية)، أشاروا عليهم وهم نفذوا بدون تفكير، ما يلي:

 التعليم باللغات الأجنبية، أي طمس الهوية العربية الإسلامية في المدارس، بل حتى في رياض الأطفال، وأصبح التعليم وخاصة للعلوم باللغات الأجنبية بدل العربية، وشخصياً، لا أفهم أبدا العلاقة بين التعليم بالإنجليزية وفهم العلوم وتطويرها، بل إني أعتبره كارثة حلّت بالأمة، وانسلاخ من الهوية العربية والإسلامية وتاريخها وحضارتها، فلا يخفى على أحد أن اللغة هي الثقافة والفكر والانتماء والجذر الثابت، ومن المؤكد أن (المستشار) كان يقصد ويريد هذا المآل.

لا نجد في أي دولة عربية معهداً لتاريخ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية. ولا نجد أي اهتمام من قِبل الحكومات العربية بالمصطلحات العلمية باللغة العربية مثلا، أو تطوير التطبيقات الالكترونية التي تخدم استخدام اللغة العربية العلمية. والذكاء الاصطناعي على سبيل المثال مجال واسع لخدمة الكثير في هذا الباب، ولا ينقص الوطن العربي خبراء وباحثين فيه.

من الأمور المهمة التي يجب ألا نغفل عنه أيضاً، أن الدول العربية هي أعضاء جسد واحد، يجب أن يكمل بعضها بعضا. فهذه الدول تتشارك في الجغرافيا والتاريخ والحضارة والثقافة واللغة والأمن، تتشارك الماضي والحاضر والمستقبل، بل تتشارك الماء والهواء، وأن هذه التقسيمات السياسية المصطنعة بينها وضعت أساساً لإضعافها، فلماذا يتم ترسيخها؟

كل دولة أو مجموعة دول تتميز وتمتلك ثروات لا تملكها الدول الأخرى. بعض هذه الدول تمتلك المال وأخرى تمتلك الثروة البشرية، بعضها يمتلك الثروة النفطية وأخرى تمتلك معادن وعناصر مهمة، وبعضها تمتلك تربة خصبة ومياه، وبعضها مراعي وثروة حيوانية. وكل منها يملك موقعا ومناخا وظروفا خاصة، يكمل بعضها بعضا. مشاكلها متشابهة يمكن أن تستفيد كل دولة بما لدى الأخرى دون تكرار المكرر وهدر الجهد والأموال.

 ولكن الملفت للنظر بشكل صادم، هو ضعف بل ندرة التعاون العلمي والبحثي بين الدول العربية، حتى بين دول تجمعها اتحادات سياسية مثل مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي، أو تلك التي تجمعها حدود مشتركة تستلزم العمل المشترك في مواضيع مشتركة مثل بحوث المياه الجوفية أو المياه السطحية أو التلوث أو الأسماك والمراعي أو نحو ذلك.

الرسم التوضيحي التالي من تقرير أصدرته مؤسسة ISI عام 2019 حول بحوث دول العالم حول أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة والذي كان بعنوان: – Navigating the Structure of Research on Sustainable Development Goals  

فمما يلفت النظر فيه ضعف التعاون البحثي بين الدول العربية حتى في التنمية المستدامة، لدرجة أن تعاون الدول العربية مع دول العالم أجمع بما فيها دول أمريكا الجنوبية، أكبر من التعاون بين الدول العربية مع بعضها، والذي هو أقل رقم في المخطط، كما هو واضح. فعلا ظاهرة تستحق التأمل. ويمكن ملاحظة التعاون بين الدول الأوروبية مع بعضها، لنرى الفرق.

إن مستوى الباحث وقدرته على البحث المتميز أمر مهم أيضاً يجب العمل عليه بكل جدية، فالبحث عالي المستوى ينتجه باحث عالي المستوى، وبالتالي فالاهتمام بنوعية الباحث العربي وخاصة أولئك الذين يمتلكون قدرات متميزة، لها أهمية قصوى بكل تأكيد. وهذا يتطلب الكثير من العمل والتخطيط طويل الأمد. وأخص بالذكر هنا البحث في العلوم الأساسية، فهي القاعدة التي تنطلق منها وتبنى عليها باقي الأنشطة البحثية. ويخلو الوطن العربي على سبيل المثال من معهد للدراسات المتقدمة كما هو الحال في الدول المتقدمة والصاعدة. وهذه المعاهد حيث يتدرب الباحث على يد العلماء الكبار والمتميزين في مجالهم، لها أثر كبير على ترقية مستوى البحث والباحث.

البيئة العلمية السليمة تستلزم وجود كيانات للباحثين تجمعهم، وأقصد هنا الجمعيات العلمية المتخصصة، والتي يندر وجودها في الوطن العربي، وهنا أعني الجمعيات الفاعلة والجادة. فللجمعيات العلمية دور أساسي في بناء مجتمع المعرفة والاستفادة من العلوم والربط بين مجتمع العلوم والمجتمع والدولة والسياسات العلمية. هذه الجمعيات التي تمثل المجتمع العلمي يجب أن تكون مستقلة وتضم الكفاءات العلمية المتميزة. وعندما تحتاج القيادة السياسية في الدولة لاستشارة علمية مثلا، تلجأ إليها وليس لمستشارين أجانب أو أفراد. ولا ننسى دور الجمعية الملكية في بريطانيا والتي تأسست في القرن السابع عشر على يد نيوتن وغيره من عظماء العلم، وغيرها من الجمعيات العلمية في أوروبا، وكيف كانت سببا من أسباب النهضة الأوروبية الحديثة.

يعيش معظم الباحثين ومنظوماتهم البحثية في معزل عن المجتمع من حولهم، فلا يقوم هؤلاء بأي نشاط مجتمعي مثل نشر الثقافة العلمية والتوعية والتي يجب أن تكون باللغة العربية، ولا تساهم الجامعات العربية إلا فيما ندر في حل المشكلات، أي أنهم يعيشون بمعزل عن المجتمع وهذا يضعفهم بكل تأكيد.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى