حماية ورعاية

الأمريكية “نورا”.. المقاتلة رقم واحد في الحرب ضد الإدمان

الباحثة الأمريكية “نورا فولكو” إحدى أهم الرائدات فى مجال مكافحة الإدمان بصفة عامة، والتدخين بصفة خاصة، تعمل “نورا” مديرة للمعهد الوطنيّ لأبحاث تعاطي المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية.

أخذ اسم “نورا”، فى الانتشار على نطاقٍ واسع في مجال علاج الإدمان، وخارجه. وبوصفها عالمة أعصاب، تُدير منذ عام 2003 “المعهد الوطني الأمريكي لأبحاث تعاطي المخدرات” (NIDA)، الواقع في مدينة روكفيل بولاية ميريلاند الأمريكية.

دعَّمت “نورا”، نظرية التعامل مع الإدمان كمرضٍ دماغي، وليس نقيصة أخلاقية. وأثناء إدارتها للمعهد الوطنى الأمريكي لأبحاث الإدمان، جعلت من أولوياته، الأبحاث المتعلقة بالأسس البيولوجية للإدمان، وتصدى لإساءة معاملة المدمنين في كلٍّ من المنظومة الطبية، ومنظومة العدالة الجنائية.

أصبح سعي “نورا” أكثر إلحاحًا في الوقت الراهن، إذ تواجه أمريكا تغيرات في الوضع القانوني لمادة “القنب”، وتوسعًا في سوق السجائر الالكترونية وعودة مفاجئة لانتشار الكوكايين، والميثامفيتامين، وتفشيًا لتعاطي المواد الأفيونية مستمر منذ عقدين، دمَّر مناطق كثيرة في البلاد، إذ أودت الجرعات الزائدة من تلك المواد الأفيونية بحياة قرابة نصف مليون نسمة في الولايات المتحدة. واستجابةً لذلك.. افتتح المعهد الوطنى الأمريكي لأبحاث الإدمان، مشروعاتٍ لمتابعة استخدام المرضى للعقاقير، وضخ استثماراتٍ كبيرة لإنتاج الأدوية التي يمكنها الحدّ من توق المدمنين للعقاقير، والنشوة الناتجة عن تعاطيها.

لماذا يلجأ البعض للمخدرات؟

أقرت “نورا” بدايةً بأنَّ ثمة أسباب رئيسية، كالتشرد، والعزلة، والبطالة، من مداخل تعاطى المخدرات، وقد تقلل من إمكانية الشفاء من الإدمان. غير أن بعض الباحثين يزعمون أنَّ تركيز المعهد على العوامل الدماغية غير متناسب مع تأثيرها، وأبدوا تخوفهم من النفوذ الواسع الذي يتمتع به المعهد فيما يتعلق بوضع سياسات مواجهة تعاطي المخدرات والإدمان.

نشأت “نورا” بين 3 أخوات بمدينة مكسيكو سيتي، ضمن أسرةٍ مهاجرة من أصولٍ سوفييتية وإسبانية، كانت أمها تعمل بتصميم الأزياء النسائية، كانت تعيش في مدينة مدريد الإسبانية، لجأت إلى المكسيك، هربًا من ديكتاتورية الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو.

أما ولدها فكان يعمل بالكيمياء، وكان لاجئًا أيضًا، قَدِم إلى مكسيكو سيتي حين كان عمره 13 عامًا في عام 1939م، ليعيش مع جده، الزعيم الثوري السوفييتي المنفِيّ “ليون تروتسكي”، الذي كان الفرد الوحيد الباقي على قيد الحياة من أقاربه.

وفي سن المراهقة، كانت “نورا” معجبة بالدماغ البشري. لذا، درست الطب في جامعة المكسيك، ولاقت حماساً منقطع النظير من قبل أبوها.

جثة في المنزل!

كان والدها يوافق لها أي شيء تطلبه، خاصة إذا كان له علاقة بالعلم، حتى إنَّها سألته ذات مرة عما إذا كان بإمكانها إحضار جثة إلى المنزل، وتشريحها، فوافق، على هذا المطلب العجيب، لكنّ أمها وأخواتها هَدَّدن بمغادرة المنزل، وانتهى بها الأمر بإحضار بعض العظام لفحصها. وكانت تردد: “حين يثير اهتمامي أمرٌ ما، فإنني لا أنصرف عنه، حتى ألِمّ به”.

بعد تخرج “نورا” حاصلة على المرتبة الأولى على دفعتها، قُبِلَت لدراسة علم النفس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمدينة كامبريدج، لكنْ تغيَّرت خططها بعد أن قرأت مقالًا نُشر في مجلة “ساينتيفيك أميريكان” سنة 1980م.

تناول المقال كيف يتمكن متخصصو تصوير الدماغ والجهاز العصبي من فحص الأدمغة الحية، ومشاهدة أنماط نشاطها، عبر تقنية مبتكرة تُسمَّى التصوير المقطعي بالإشعاع البوزيتروني (PET). وقد أسرها ذلك على الفور.

وبعد فترةٍ قصيرة من قراءة المقال، حصلت “نورا” على وظيفة بحثية في مختبر الطبيب النفسي “جوناثان برودي”، فيما كان حينئذ المركز الطبي بجامعة نيويورك (NYU) في مدينة نيويورك، الذي تضمَّن برنامجًا نشطًا، يستخدم تقنية التصوير المقطعي بالإشعاع البوزيتروني في تصوير الدماغ والجهاز العصبي. وكان برودي قد بدأ حينها في تصوير الأدمغة باستخدام تلك التقنية، بهدف دراسة عديد من اضطرابات الدماغ المختلفة لدى البشر.

الطبيب النفسي “جوناثان برودي”، واصفًا “نورا”: “كانت براعتها جليةً منذ البداية، وحماسها لم يكن يعرف الحدود”.

وسرعان ما انخرطت “نورا” في جميع المشروعات البحثية الجديدة، بدايةً بتلك المعنية باكتشاف واسماتٍ حيوية للأورام الدماغية، ووصولًا إلى رصد الاختلافات في نشاط الدماغ بين المصابين بالفصام، وغير المصابين به. وبدأ يذيع صيتها كعالمة متمردة، لكنْ عبقرية. ويضيف برودي: “كانت نورا على يقينٍ من أنَّها دائمًا على حق، وكانت محقةً بالفعل في بعض الأحيان، بل ربما في أغلبها”.

بحثًا عن المعلومات

ومع حلول عام 1985، كانت “نورا” قد انتهت من تدريبات مؤهلة للعمل كطبيبةٍ نفسية في جامعة نيويورك، وبالفعل انتقلت إلى مركز علوم الصحة بجامعة تكساس، للعمل في منشأة التصوير الشُعاعي بالمركز. وكانت تنتوى دراسة مرض الفصام، لكنَّ ظاهرة الهوس بالكوكايين التي سادت حينئذ صاحبتها زيادةٌ كبيرة في عدد المدمنين.

وفي صورة بعد أخرى التقطتها “نورا” بتقنية التصوير المقطعي بالإشعاع البوزيتروني، لاحظت تباينات غير معتادة في أدمغة هؤلاء المدمنين. وقالت عن ذلك: “ترى في تلك الصور فجوات وثغرات في مواضع من المفترض أن تجد تدفقًا للدم بها”. وافترضت أن الكوكايين يسد الأوعية الدموية، إلى درجة يعوق معها تدفق الدم في دورته كما ينبغي، على نحو يشبه ما يحدث في السكتات الدماغية الطفيفة. وقد تعارضت النتائج التي توصلت إليها مع اعتقاد كان شائعًا وقتذاك بأن الكوكايين هو مادة آمنة نسبيًّا، وتغيَّر هذا التصور جراء وفاة اثنين من أشهر الرياضيين الأمريكيين في عام 1986م، وهما لاعب كرة السلة “لين بياس”، ولاعب كرة القدم الأمريكية “دون روجرز”.

وفي عام 1987، انتقلت “نورا” إلى مختبر بروكهايفن الوطني، حيث استمرت على مدار الأعوام الستة عشر التالية في دراسة تداعيات المخدرات على الدماغ البشري. وواستعانت حينئذ النظائر المشعة لوسم الكوكايين، بغرض تتبع مدى سرعة تحفيزه للناقل العصبي المعروف باسم “الدوبامين” في الدماغ، وسرعة تبدده أيضًا، إذ راهنت “نورا” حينئذ بأن سرعة تأثيره ربما تفسر سبب قدرته الكبيرة على التسبب في الإدمان.

سلسلة من الاكتشافات

ومع مرور الوقت، تحققت سلسلة من الاكتشافات الكبرى خاصة فى فترة التسعينيات، إذ لاحظت “نورا” أن القشرة أمام الجبهية لم تكن تعمل بكامل نشاطها لدى مدمني الكوكايين، وهو اعتلال قد يسبق الإدمان في بعض الأحيان، ويجعل المدمن أكثر عرضةً له.

ورأت “نورا”، أن هذا الاعتلال في عمل مناطق اتخاذ القرار هو السبب في شعور مدمني المخدرات بفقدانهم السيطرة على أنفسهم.

وتوصلت “نورا”، إلى أن تكرار تعاطي الكوكايين يؤدي إلى إضعاف حساسية الدماغ، عن طريق تدمير مستقبلات الدوبامين، وهو ما يقلل إحساس البشر بالمتعة عند تعاطيه، بينما يعمل المخدر فى نفس الوقت على زيادة اعتمادهم عليه، وفيما بعد توصلت “نورا”، وفريقها البحثي إلى النتائج ذاتيها لدى دراسة مسيئي استخدام الكحوليات، أو الهيروين، أو الميثامفيتامين.

ورغم عدم وضوح الصور المقطعية الملتقطة بتقنية الإشعاع البوزيتروني، فإنها كانت تُظْهِر الإدمان بما يكفي؛ لتتمكن “نورا” من تمييز الصور الخاصة بالمدمنين من غيرها.

حققت “نورا” بعد ذلك العديد والعديد من الاكتشافات. حيث توصلت إلى أن بعض التغييرات التي يسببها إدمان الكحوليات في الدماغ يمكن علاجها بعد أشهرٍ من الامتناع عن تعاطي هذه المواد، وأن الدوبامين يؤثر على الدوافع لدى البشر في اتخاذ القرار، وهي عملية تختل في حال إدمان المخدرات. تولت “نورا” إدارة المعهد، الذي أصبح حاليًّا وكالةً تبلغ ميزانيتها 1.3 مليار دولار أمريكي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى