منوعات

داء السكري يكشف التفوق الطبي للحضارة الإسلامية على الحضارات الإنسانية القديمة: دراسة تاريخية لأربعة آلاف سنة

تُعرف الحضارة البشرية بأنها مجموعة من العقائد والمبادئ المُنَظِّمة للمجتمع، وتُمثّل ناتج النشاط البشري في مختلف المجالات كالعلوم، والآداب، والفنون، وما ينجم عن هذه الأنشطة من صياغة أساليب الحياة المختلفة، والأنماط السلوكيّة، والمناهج الفكريّة.

وقد تطوّر مصطلح الحضارة مع تعاقب العصور وتعدّدت تعريفاته، فرأى ابن خلدون أن الحضارة هي التفنّن في الترف بما يشمل الملابس، والمباني، والمطابخ، وكلّ ما يخص المنزل والأمور التابعة له. ولقد عرفنا من التاريخ أن لكل حضارة مراحل لا بد من أن تمرّ بها، فيقول ابن خلدون في المقدمة: “إن الدولة والتي تنعكس على الحضارة، لها أعمار طبيعية كما للأشخاص، بداوة، ثم ازدهار، فتدهور، وهذا ينطبق على الحضارات القديمة عبر العصور”. فتبدأ الحضارة عندما يتبنى مجتمعٌ ما عقيدةً ينطلق منها ومناهج يلتزم بها، تصوغ أساليب الحياة، وأنماط السلوك، فينعكس ذلك على صحة المجتمع وأنماط الأمراض فيها خلال فترة ازدهارها، وكلّما طالت هذه الفترة تمكّن الإنسان من التعرف عليها وتوثيقها في تراثه وآثاره.

يصاحب داء السكري رفاهية العيش ووفرة الطعام، فنجد دلائله موثّقةً في المخطوطات والآثار التي تركتها الحضارات القديمة عند ازدهارها، ويختفي عند انهيارها. وتعكس معتقدات هذه الحضارات وثقافاتها تسميةَ المرض وتحديد أسبابه وطرق علاجه. وقد يكون لمعظم الحضارات القديمة ازدهارٌ مادي وثقافي، إلا أن القليل منها ترافق فيها هذا الازدهار المادي بسموّ عقدي كما هي الحالة في الحضارة الإسلامية، التي رفعت من قيمة الإنسان بالمحافظة على ضروراته الخمس وهي النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال.

وبالنظر إلى توزيع الحضارات القديمة كما في خريطة العالم القديم التي رسمها الجغرافي العربي محمد الإدريسي عام 1154م (انظر الشكل رقم 1)، يتضح أن الحضارة الفرعونية قد اقتصرت على وادي النيل في الغالب وسادت 2768 سنة، في حين قبعت الحضارة الهندية التي زامنتها 4000 سنة في بلاد السند، أما الحضارتان اليونانية والرومانية فانتشرتا في القارة الأوروبية وظهرتا معا خلال 2653 سنة، واستقرت الحضارة الصينية على طول خط قرى النهر الأصفر ونهر يانغتسي لتبقى 1865 سنة، وأخيرًا الحضارة الإسلامية التي عاشت 1300 سنة فقد امتدّت جغرافيًا عبر ثلاث قارات هي آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، ولذلك فإنها الحضارة الوحيدة التي توسطت العالم القديم وامتدت على مساحة شاسعة من أقصى شرق العالم القديم إلى أقصى غربه، من دون أيّ انحسار.

شكل 1: خريطة العالم القديم كما رسمها الجغرافي العربي محمد الإدريسي عام 1154م، وتوزيع الحضارات القديمة بحسب تواريخ سيادتها وتوثيق تاريخ داء السكري.

ويعتبر السكري من الأمراض الغارقة في القدم، حيث كشفت عنه بعض الحضارات القديمة وأطلقت عليه العديد من المسميات كما تُظهره هذه الدراسة. ويكشف المسح التاريخي لفترة أربعة آلاف سنة، والذي يشمل العديد من الحضارات والممالك، الدور الذي قدّمته كل حضارة للبشرية في فهم الأمراض وعلاجها، والذي يمكن رصده من خلال الآثار العينية أو العلمية التي أرَّثتها كل حضارة، ومدى قربها مما نعرفه عن الأمراض في وقتنا الحاضر، وخاصة السكري الذي يعدّ من الأمراض المزمنة التي يعاني المريض منها لفترة طويلة قبل أن تقضي عليه، مما يمكن الأطباء من رصده ودراسته ووصف انطباعاتهم عنه. ولا شك في أن تراكم المعرفة خلال السنوات كان الأساس لفهم العديد من الأمراض، ومنها السكري.

تسعى هذه الورقة البحثية، من خلال دراسة المؤلفات القديمة والبحوث التاريخية والآثار الموثّقة عن داء السكري، لرصد مراحل فهم هذا المرض، ودور كل حضارة في كشف أسبابه وأعراضه وتشخيصه، ومن ثم علاجه. وتحرص هذه الدراسة على الوقوف على نحو محايد تجاه كل حضارات العالم القديم، ومن ثم تحديد الحضارة ذات الدور الأبرز في تشخيص داء السكري وعلاجه.

طريقة الدراسة والرصد

تعتبر هذه الدراسة مراجعة تحليلية لرصد دور الحضارات القديمة في توثيق داء السكري خلال فترة تمتد لأربعة آلاف سنة؛ من ألفي سنة قبل الميلاد إلى ألفي سنة بعده، باستثناء القرن الماضي حيث اختفت الحضارات القديمة بسقوط الحضارة الإسلامية وانهيار الدولة العثمانية. وحيث إن هناك العديد من الإمبراطوريات أو الممالك التي قامت ثم زالت خلال هذه الفترة، فقد وُضعت معايير لتحديد الحضارات التي اشتملت عليها هذه الدراسة لضمان إمكانية ذكر داء السكري في تلك الحضارات حسب ما يلي: أولًا، أن تبقى الحضارة فترة زمنية تزيد على ألف سنة لضمان فترة كافية من الازدهار لظهور داء السكري فيها. ثانيًا، أن تمتلك الحضارة من الآثار ما يكفي لمعرفة ما وصلت إليه هذه الحضارة من علوم طبية. ثالثًا، أن تكون الحضارة مستقرة جغرافيًا ومعروفة الامتداد المكاني. رابعًا، أن يثبت من خلال الدراسات التاريخية والآثار المكتشفة ذكر داء السكري بوصف أعراضه، أو طرق تشخيصه، أو مضاعفاته، أو أساليب العلاج. خامسًا، توثيق وجود طبيب أو أطباء ارتبط تاريخهم بهذا الداء من خلال دراسة تراث هذه الحضارات الطبي.

استثنى تطبيق المعايير السابقة العديد من الحضارات والممالك التي عاشت خلال الفترة المختارة، وانطبقت على ست حضارات فقط هي: الفرعونية، والهندية، واليونانية، والرومانية، والصينية، والإسلامية بفرعيها الشرقي والغربي.

وبعد تحديد هذه الحضارات للدراسة، جرى مسح شامل للبحوث العلمية المحكمة والمنشورة في مجلات النشر العلمي المحكم، وكتب المخطوطات الطبية القديمة، إضافة إلى كتب التاريخ الطبي القديم، باللغة الإنجليزية، أو العربية، أو التركية، أو الفارسية. ولكون داء السكري في هذه الحضارات قد حمل العديد من الأسماء، فقد تم التعرف على هذا الداء في التراث القديم على أساس أعراضه، أو المسمى الذي أطلق عليه، أو طرق التشخيص التي استخدمتها تلك الحضارات. وبعد تحديد المادة العلمية، يتم توثيق المصدر وصياغة المادة العلمية منها صياغة دقيقة. أما بالنسبة إلى الأطباء، فقد تم رصد سِيرهم من خلال المراجع وكتب السِير ككتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وعُرّبت الأسماء الأعجمية حسب المتعارف عليه في المراجع العلمية العربية (انظر الشكل رقم 2).

شكل 2: أهم الأطباء في الحضارات القديمة الذين وثّقوا داء السكري والفترات التي عاشوا بها خلال 4000 سنة.

وقد انعكس شُح ما كتبته هذه الحضارات من علوم طبية على قلة ما هو موجود فيها عن مرض السكري، إلا أن هذا المرض تميز بأعراض واضحة، وقليلة الحدوث في الأمراض الأخرى، إضافة الى وجود مادة السكر في البول التي سهلت التعرف عليه من خلال طعمه الحلو، أو تجمع النّمل أو الذباب حوله.

داء السكري في الحضارات القديمة

إن رصد ما وثقته الحضارات القديمة المختارة عن داء السكري باستخدام معايير البحث وترتيبها بحسب تسلسلها الزمني، يظهر عدم ترابط أو تزاوج المعارف فيما بينها نتيجة تباعدها الجغرافي، عدا ما كان من الحضارة الإسلامية التي قامت بترجمة العلوم الطبية من الحضارات اليونانية والرومانية والهندية القديمة، فضلًا عن أنها امتدت جغرافيًا لتشمل مناطق الحضارات الأخرى ما جعلها تكتسب معارفها.

الحضارة الفرعونية القديمة

كانت بداية معرفة البشرية بداء السكري من خلال البرديات الفرعونية القديمة، وخصوصًا بردية إيبرس (Ebers Papyrus) التي كتبها، عام 1552 قبل الميلاد، الطبيب المصري “حسي رع” من الأسرة الثالثة. ‏ولقد ملئت هذه البردية بالتعاويذ والتطبيقات التي تهدف إلى إبعاد الشياطين المسببة للأمراض، وتضمّنت على 877 وصفة طبية مختلفة للعديد من الأمراض، وفصول في وسائل منع الحمل التي تميزت بها الحضارة الفرعونية، بل حتى تشخيص الحمل والأمراض النسائية الأخرى. ‏واشتملت هذه البردية على وصف لأمراض الأمعاء والطفيليات، ومشاكل العين، والجلد، وطب الأسنان، إضافة إلى العلاج الجراحي للخراجات، والأورام، وتثبيت العظام، والحروق. وتعتبر هذه البردية أكبر موسوعة طبية للحضارة الفرعونية.

أطلق المصريون القدماء على داء السكري مسمى “عطش النساء”، كما ورد في بردية إيبرس، وهو الوصف الأول لهذا الداء في التاريخ. إلا أن هذه البردية التي ربطت هذا الداء بالإفراط في شرب السوائل وظاهرة كثرة التبول لم تصف طرقًا لتشخيصه، أو علاجه. وكانت هذه البردية ممزقة في المنطقة التي تكلمت فيها عن هذا الداء، وبذلك خفي علينا ما كان يعرفه الفراعنة عن هذا الداء من حيث التشخيص والعلاج.

ولكون المصريين القدماء قد برعوا في علم التحنيط، فقد حُملت منذ آلاف السنين إلينا أجسادهم في توابيت، فكانت ذات قيمة علمية كبيرة، دفعت علماء الآثار والأطباء إلى دراسة ما يقع في أيديهم من مومياوات فرعونية، فكشفوا عن وجود العديد من الظواهر المَرضية. وكان لكشف إصابة بعض هذه المومياوات بداء السكري من خلال فحص تسكّر بروتينات الشعر توثيقٌ دقيق لإصابة بعض الفراعنة بالسكري. ‏ويصدّق ذلك ما وجده العلماء عند فحص مومياء حتشبسوت، التي عاشت خلال الفترة 1508-1458 قبل الميلاد، وهي خامس فرعون في الأسرة الثامنة عشرة لمصر القديمة، حيث تشير الأدلة الطبية إلى أنها كانت تعاني من السمنة، والسكري، وتوفيت بسبب سرطان العظام الذي انتشر في جميع أنحاء جسدها وهي في الخمسينيات من عمرها. كما أن فحص مومياء أخناتون الثامن عشر كشف إصابته بورم الغدة النخامية الحميد المسبب لمرض العملقة الذي يصاحبه داء السكري الثنائي.

أما عن توثيق مضاعفات السكري في الحضارة الفرعونية القديمة، فقد أظهرت بقايا الهيكل العظمي لرجل من الموقع الأثري المصري في دير البرشاء الذي يعود إلى المملكة الوسطى في الفترة 2055-1650 قبل الميلاد، وجودَ اعتلال المفاصل العصبية المعروف باسم “مفصل شاركوت” (Charcot Joint) الذي غالبًا ما يكون إحدى ظواهر مضاعفات داء السكري المتمثل باعتلال الأعصاب والشرايين. كما وثقت إحدى الجداريات وفاة رجل مصري قديم يرجّح أنه في العشرينيات من عمره ‏منذ حوالي 2900 سنة بمرض نادر وعلى نحو مفاجئ، قد يكون النوع الأول من السكري هو المسبب لذلك.

الحضارة الهندية

عاشت الحضارة الهند القديمة 3700 سنة، كما دلت على ذلك الكشوفُ الأثرية في مدينتي موهونجودارو وهارّبا الأثريتين في وادي السند، الواقعتين فيما يعرف بباكستان في الوقت الحاضر. وكشفت الدراسة التاريخية امتلاك هذه الحضارة مستويات من الرقي توازي الحضارة الفرعونية التي زامنتها تاريخيًا، إلا أنها كانت محدودة الآثار مقارنةً بالحضارة الفرعونية.

وتسمّى هذه الحضارة بثقافة هرّابا، نسبة إلى مدينة هرّابا الواقعة في وادي السند، وتسمّى في العموم حضارة وادي السند أو الحضارة السندية. وقد ربط الهنود القدماء أمراض الجسم بغضب الإله، وتطور الطب من العصر السحري الديني إلى طب الأيورفيدا الممنهج الملتزم بالمعايير الأخلاقية الصارمة، ما أنتج أطباءً ماهرين في الطب والجراحة.

وقد عرف الهنود القدماء داء السكري عبر واحد من ثلاثة نصوص أسست للطب الهندي القديم المسمى بالأيورفيدا خلال القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد. وقد أطلق أب الطب الهندي القديم سوشروتا (Sushruta) في عام 800 قبل الميلاد في مؤلفه “سوشروتا سامهيتا” (Sushruta Samhita)، على السكري اسم (Medhumeha)؛ أي البول العسلي، وحدد المرض بنوعين هما النوع الأول والنوع الثاني من داء السكري على أنهما حالتان منفصلتان لأول مرة في التاريخ، واعتبر النوع الأول مرتبطًا بالشباب، والنوع الثاني بالسمنة. وكان الطبيب تشاراكا أحد المساهمين الرئيسيين في الأيورفيدا، وهو محرر الأطروحة الطبية بعنوان “شاراكا سامهيتا” (Charaka Samhita)، أحد النصوص التأسيسية للطب الهندي القديم.

لاحظ الأطباء الهنود القدماء أن داء السكري يصيب، في المقام الأول، الطبقات الغنية، وهو مرتبط بالإفراط في استهلاك الغذاء مثل الأرز والحبوب والحلويات. 4 وقد وصفت هذه النصوص أعراض داء السكري بالعطش، ورائحة الفم الكريهة، والضعف العام، كما لاحظ الأطباء الهنود انجذاب النمل والذباب إلى بول المرضى المصابين بداء السكري، فكانت طريقتهم في تشخيصه. 9 أما من حيث طرق العلاج، فقد أوصى الأطباء الهنود القدماء بالنشاط البدني وتقليل الغذاء للمساعدة في علاجه.

الحضارة اليونانية/ الإغريقية

شاركت الحضارة الإغريقية في كشف داء السكري من خلال الموسوعي اليوناني أولوس كورنيليوس سيلسوس (Aulus Cornelius Celsus) خلال الفترة الواقعة في 1000 سنة قبل الميلاد بعمله الطبي المميز الموجود في المجلدات العديدة من موسوعته، وهي أطروحته الشهيرة في الطب (De Medicina)، والمقسمة إلى ثمانية كتب شملت تاريخ الطب اليوناني، حيث تضم إشارات إلى ثمانين مؤلفًا طبيًّا، احتوت على علم الأمراض، كان أحدها داء السكري. كما شملت هذه الأطروحة على علم التشريح، والأدوية، والجراحة وخصوصًا جراحة العظام. وكان هذا الطبيب أول من قدّم وصفًا سريريًا لمريض مصاب بالسكري، ووصف أعراض المرض بكثرة التبول، وقلة الإحساس بالألم، والضعف العام، وقال إن ناتج السوائل الخارجة (أي البول) أكبر من كمية ما يتناوله من السوائل. وقد وصف العلاج بنظام غذائي يحتوي على الحد الأدنى من الطعام وتغيير نمط الحياة.

وقد يكون أبقراط (Hippocrates) الذي عاش خلال الفترة 460-370 قبل الميلاد، اقتبس منه استخدام تعديلات نمط الحياة، كالنظام الغذائي وممارسة النشاط البدني لعلاج أمراض مثل داء السكري، وهو ما يسمى اليوم بتغيير نمط الحياة. وكثيرًا ما يقتبس عن أبقراط قوله “ليكن الطعام دواءك والدواء طعامك” وكذلك قوله “المشي هو أفضل دواء للرجل”.

في حين يُعتقد بأن الطبيب ديميتريوس أفاميا (Demetrius of Apamea) والذي عاش في أفاميا الشام على بعد 60 كيلومترًا عن مدينة حماة، وكانت مستعمرة يونانية آنذاك، أول من وصف هذا الداء، وذلك في الفترة الواقعة في 200 سنة قبل الميلاد، حيث لاحظ تدفق البول المفرط لدى هؤلاء الأفراد. ويُعتقد أنه أول من أطلق كلمة “دايابيتس” (Diabetes)، وهو مصطلح يوناني مستنبط من الكلمة اليونانية (διαβαiνω) “ديابينو” التي تعبّر عن مرور السوائل عبر الكلية، تعبيرًا عن كثرة البول وتدفقه. ومن الجدير بالذكر أن كتابات ديميتريوس قد ضاعت للأسف الشديد، ولعله كتب فيها طريقة التشخيص أو العلاج.

أما روفوس من أفسس (Rufus of Ephesus) فكان طبيبًا مشهورًا وصف أعراض داء السكري مثل العطش المستمر، والتبول الفوري بعد الشرب، وهو ما دعاه الى إطلاق مسمى “الإسهال البولي” عليه. وقد وصف العلاج بالتقيؤ بعد شرب الماء البارد وخلط عدة مواد، مثل “السيزون” و”بتيساني” والخضروات المطبوخة، ونصح أيضًا بالحمامات وتبريد الرأس أثناء تسخين الجسم.

الحضارة الرومانية

كان الطبيب جالينوس (Galen) الذي عاش خلال الفترة 129-200م طبيبًا وجراحًا وفيلسوفًا بارزًا، شغل منصب الطبيب الشخصي للعديد من الأباطرة. وكان اهتمامه الأساسي هو علم التشريح البشري، ومن بين مساهماته الرئيسية في الطب عمله في الدورة الدموية.

وقام بترجمة النصوص الطبية اليونانية إلى اللاتينية ونقل آراء طبية يونانية إلى روما، حيث ذكر أن داء السكري إحساس مميز، يحدث على نحو قليل بين الرجال، وأنه هو ذوبان اللحم والأطراف في البول، وعدم توقّف المرضى عن إنتاج الماء والتدفق المستمر للبول، كما لو كان قناة مفتوحة. وأرجع سبب المرض إلى عطل في وظائف الكلى، وأكد أن حياة المريض قصيرة ومصحوبة بالآلام والعطش المفرط، فلا يرتوي من الماء، حيث لا تتناسب كمية البول الكبيرة مع الماء المشروب. ولو امتنع عن الشرب لفترة فسيصاب الجسد بالجفاف الشديد، ويصاحبها الغثيان والقلق والعطش الشديد، حيث يؤدي إلى الوفاة.

ويقترح جالينوس العلاج بدواء هو خليط مقدس مكون من العديد من المواد هي المستكة، والتمر، والسفرجل الخام وزيت الورد.

قام الإسكندر تراليس (525-605م)، وهو أحد أشهر الأطباء وعلماء الصيدلة في العصر البيزنطي بكتابة موسوعة طبية في اثني عشر مجلدًا، تشمل العديد من الموضوعات تراوح بين الطب الباطني والجراحة وطب العيون وطب الأنف والأذن والحنجرة وأمراض النساء والصيدلة. وخصص فقرة مفصّلة لداء السكري، ذكر فيها تسمية المرض، والتعريف به، ومسبباته، والمظاهر السريرية وعلاجه، وهي اقتباسات من الطب اليوناني وما كشفه جالنيوس عن المرض.

في حين درس الطبيب أراتيوس (Aretaeus)، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، الطب في الإسكندرية، ومارسه في روما. وركّز في الفصل الثاني من الكتاب الثاني من عمله بعنوان أسباب وأعراض الأمراض الحادة والمزمنة، على داء السكري مستخدمًا الاسم اليوناني (Diabetes) من أسلافه. وسجّل وصفًا دقيقًا لحالة المريض، وقد يكون اقتباسًا من جالينوس، كما يلي: “يعتبر مرض السكري من الآلام المروعة، ولا يتكرر كثيرًا بين الرجال، حيث يتحلل لحم الأطراف في البول، ولا يتوقف المرضى أبدًا عن إخراج البول بتدفق مستمر، كانفتاح القنوات. وتعتبر الحياة قصيرة وغير سعيدة ومؤلمة، يصاحبها عطش لا يطفأ، وشرب مفرط وغير متناسب مع كمية البول الكبيرة، فإن امتنع المرضى عن الشرب لفترة تجفّ أفواههم وأجسادهم وأحشاؤهم. ويتأثر المرضى بالغثيان والقلق والعطش الشديد، وفي غضون فترة قصيرة يموتون”.

الحضارة الصينية

أطلقت الحضارة الصينية مسمى “البول الحلو” على داء السكري (تانج نيو بونج) (糖尿病)، وتُرجم هذا المسمى أيضًا إلى اللغتين الكورية واليابانية. وربط الصينيون القدماء الإفراط في النظام الغذائي، وخصوصًا لدى الطبقة العليا من المجتمع، بالإصابة بداء السكري، وهذه الملاحظة تماثل ما سجّله أطباء الهند القديمة. ووصف كتاب “الأسئلة البسيطة” مريض السكري على النحو التالي: “عندما يأكل الشخص الكثير من الأطعمة الدهنية والحلوة، يُنتج الجسم الحرارة الجافة، أي من دون تعرّق، مما يتسبب في تخزينها في الجسم، وعندما يتشبع الجسم بها تؤدي إلى الإصابة بداء السكري”، وهذه محاولات لتفسير أسباب الإصابة وإن كانت لا تعبّر عن الحقيقة.

ويعتبر الطبيب تشانغ تشونغ (Zhang Zhongjing) (ت. 219م) من أشهر الأطباء في الحضارة الصينية القديمة، ويعرف باسم “أبقراط الصينيين”، وألف كتاب “الطب القديم للإمبراطورية الصفراء” في عهد أسرة هان، ووصف داء السكري بالإفراط في الشرب والأكل. في حين أضاف الطبيب سوين، وهو أحد الأطباء الصينيين القدماء، أن السكري يتميز بكثرة التبول ووجود السكر في البول الذي يصاحبه فقد الوزن الواضح. وذكرت وثيقته “الصيغ الفعّالة من العصور القديمة حتى الوقت الحاضر”، خلال عهد أسرة سوي (Sui) في الفترة 589-618م، أن مرضى السكري يعانون من العطش المتكرر الذي يؤدي إلى الإفراط في الشرب والتبول المفرط بالبول الحلو والخالي من الدهون.

ويعتقد الصينيون القدماء أن داء السكري ينتج من التراكم المفرط للجفاف أو الحرارة داخل الجسم. وتأتي شرور الجفاف والحرارة من مصادر بيئية خارجية مثل اتباع نظام غذائي غير صحي، حيث تتحول داخليًّا إلى عوامل مسببة للأمراض مثل ضرر الكلى، فتؤدي عوامل الجفاف والحرارة إلى تفاعل أعضاء معينة في الجسم على نحو سلبي، كالرئة والمعدة والكلى.

وقد لاحظ الطبيب لي هسوان (Li Hsuan) في القرن السابع الميلادي أن مرضى السكري معرّضون للدمامل والتهابات الرئة، ووصف تجنّب الجنس والنبيذ علاجًا لداء السكري.

الحضارة الإسلامية

قامت الحضارة الإسلامية على مبادئ دين الإسلام، وهي حضارة إنسانيّة تشمل مختلف جوانب الحياة، كما أنها حضارة ربانيّة تدعو إلى العلم. ورفعت من شأن الإنسان، واعتنت بسلوك الفرد الاجتماعي والصحي، وتفاعلت مع ثقافة الشعوب التي دخلت في دين الإسلام، واختلطت بها فأثّرت في الحضارات التي امتد إليها الإسلام أثناء فترة انتشاره وتأثّرت بها؛ ما أدى ذلك إلى إخراج نظريات ناجحة في العلوم الإنسانية، فسيطرت الحضارة الإسلامية على مجال العلوم منذ القرن السابع الميلادي حتى انهيار آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين والناظر إلى تاريخ البشرية المسجل خلال 4000 سنة يكتشف أنه لا توجد حضارة قدّمت للبشرية مثل ما قدّمته الحضارة الإسلامية، بل إن الخلافات والممالك الإسلامية المتعددة تنافست في شتى الجوانب العلمية، ومنها المجال الطبي.

الحضارة الإسلامية في المشرق

بدأت الحضارة الإسلامية في المشرق منذ بعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ثم الخلافة الراشدة، لتتابع الخلافات من الخلافة الأموية إلى العثمانية خلال ما يزيد على 1300 سنة. وكان لعلماء هذه الفترة في المجال الطبي السبق، سواء في فن الترجمة من الحضارات السابقة أو التأليف، أو حتى اتباع المنهج العلمي التجريبي السليم، وكذلك السبق إلى العديد من الاكتشافات والاختراعات التي لا يزال العالم ينعم بثمارها وفوائدها حتى وصلنا إلى الطب الحديث.

ولقد أقامت هذه الحضارة المستشفيات لعلاج المرضى، منها ما كان ثابتًا في المكان الذي أقيم عليه أو متنقلًا، فكان أول مستوصف في الإسلام هو الذي أمر الرسول– صلى الله عليه وسلم – بإنشائه أثناء معركة الخندق سنة 626م على هيئة خيمة، ثم تطورت المستشفيات في العهد العباسي تطورًا كبيرًا، وتزايد عددها في حواضر العالم الإسلامي، وظهرت معاهد لتعليم الطب أُلحق بها الصيدليات. ولقد كان لمرضى داء السكري حظٌّ وافر من هذه الخدمات.

وهنا أختار عينة ممن برزوا في مجال داء السكري:

• محمد بن يحيى بن زكريا الرازي

• الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا

• عبد اللطيف بن يوسف البغدادي

• علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي

• عبد الملك بن زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان

• عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الإشبيلي

• موسى بن ميمون القرطبي

جدول 1: مساهمات الحضارات الست محل الدراسة في التعرف على داء السكري وأسبابه وأنواعه ومضاعفاته وطرق تشخيصه وعلاجه.

الخلافة العثمانية

أولت الدولة العثمانية الجانب الصحي للمجتمع باهتمام خاص منذ عام 1838م، وقد برز ذلك من خلال تطبيق نظام الحجر الصحي، ثم نشرت الدولة العثمانية أول نظام يتعلق بالصحة العامة وإدارتها في العاصمة إسطنبول وفي بقية الولايات العثمانية على حد سواء، وهو نظام الإدارة العمومية الطبية الذي نص على توجه الدولة العثمانية واهتمامها بمجمل الأوضاع الصحية.

تعتبر متلازمة التمثيل الغذائي (Metabolic Syndrome) من الأمراض الأيضية المسببة للسمنة والسكري والناجمة عن النظام الغذائي الغني بالسكريات والدهون والخمول. ولقد وثّق الأرشيف الصحي العثماني إصابة العديد من السلاطين العثمانيين وأفراد عديدون من رعاياها بهذه المتلازمة منذ عام 1258م حتى سقوط الخلافة العثمانية عام 1922م. كما وثق الأرشيف العثماني الطبي ارتباط المتلازمة بالسكري وأمراض القلب الوعائية وارتفاع ضغط الدم والنقرس، ووصف الأطباء تعديل أسلوب الحياة في منع الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائي وكذلك زيادة النشاط البدني.

المناقشة

تميز داء السكري بأنه وُجد منذ وجود الإنسان عبر العصور، فوضع بصمته في جميع الحضارات، وخصوصًا عند ازدهارها؛ لذلك فإنه من الممكن من خلال رصده عكس الحالة الصحية للأمم القديمة، والحالة الثقافية والعلمية التي تمتعت بها. كما أنه وسيلة قياس للمستوى الطبي الذي وصلت إليه من خلال الأطباء والعلماء الذين برزوا في تلك الحضارات، بغضّ النظر عن مكانتها المادية والثقافية والدينية.

إن هذه الدراسة، وبالمعايير التي اختارت بها الحضارات، خلال أربعة آلاف سنة، تجعل من الممكن مقارنة الحضارات بصورة دقيقة ومحايدة. ولا بد من التأكيد هنا أن المعرفة الإنسانية تراكمية، فتستفيد كل حضارة من الحضارات التي سبقتها، ولذلك فإن مقارنة الحضارات بما تمتلكه من علم وممارسات في شأن محدد كداء السكري، يخفف من أثر التراكم الحضاري ويعطي انطباعًا أدق في إجراء المقارنات بين هذه الحضارات (انظر الجدول رقم 1).

وأوضحت هذه الدراسة تفوق الحضارة الإسلامية على باقي الحضارات التي سبقتها، أو زامنتها؛ إذ قدمت للبشرية في 1300 سنة ما عجزت أن تقدّمه باقي الحضارات خلال 2700 سنة، فضلًا عن أنها مزجت مهنة الطب بالأخلاق، والقيم، ووضعت معايير لأخلاق الأطباء، ومهنة الصيدلة ولم تتركها للمشعوذين، أو طمع الأطباء، كما هي الحال في الحضارات الأخرى. وأيضًا قنّنت الحضارة الإسلامية مهنة الطب، وقصرتها على من درسه في المؤسسات والجامعات والمارستانات التي أنشأتها، وإن كانت بعض الحضارات الأخرى كالرومانية قد فعلت بصورة محدودة شيئًا من هذا.

إن الناتج العلمي لأي حضارة سابقة، يقاس بما تركته بعدها. ومن يرصد المؤلفات والآثار الطبية التي تركتها الحضارة الإسلامية لا يشك في تفوقها، ليس بعدد الأطباء الذي فاق جميع الحضارات السابقة لها فقط، بل وحتى المستوى العلمي، ويكفي أن نعلم أن مؤلفات أطباء الحضارة الإسلامية فاقت كل الحضارات، كما هو واضح فيما تركته الحضارة الإسلامية عن السكري، كما أنها لا تزال مرجعًا علميًا في مجالها حتى يومنا هذا، وخير مثال على ذلك ابن سينا وابن خلدون.

وبنظرة سريعة على ما حملته هذه الدراسة حول تاريخ السكري، فإن العلماء والأطباء الذين عاشوا في العصر الإسلامي قدّموا لنا الأساس الذي بنى فيه العلماء والأطباء المعاصرون اكتشافاتهم وطرق التعامل مع المرض والمريض، ليس من الناحية الإكلينيكية والأخلاقية فحسب، بل كذلك من الناحية التجريبية والبحثية.

ويبقى أن نذكر أن هذه الدراسة لم تشمل العديد من الحضارات التي لم تنطبق عليها معايير الدراسة، وأن تعدد الأسماء التي أطلقت على داء السكري، والاعتماد على أعراض المرض في هذا البحث التاريخي، قد يحدان من الوصول إلى مواد تراثية ذات قيمة علمية. إلا أن ما يميز هذه الدراسة محدودية البحث في مرض واحد، ومن خلال حضارات محددة حملت تراثًا كافيًا للبحث.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى