الحكيم

البحرينية “فاطمة الفاضل”.. أول طبيبة شرعية في بلدها

خاضت المرأة البحرينية غمار العديد من المجالات الاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية والسياسية والتشريعية على قدم المساواة مع الرجل. بل أن الكثيرات منهن حققن للبلاد ما لم يحققه الرجل لجهة حصد الجوائز والمناصب العربية والإقليمية والدولية.

وفي هذا السياق نذكر الدكتورة فاطمة عبد الرحمن الفاضل, والتى دخلت تاريخ مملكة البحرين باعتبارها أول سيدة تتخص في الطب الشرعي، وقد ذكرت في حوار أجرته معها صحيفة الأيام البحرينية (28/‏2/‏2016) أنها عشقت هذا التخصص لما يحيط به من أسرار وغموض، ولما يتخلله من جهد وتفكير لفك الطلاسم المحيطة بالجرائم تحقيقا للعدالة.

إن دخول المرأة البحرين ممثلة بالدكتورة فاطمة الفاضل هذا المجال الوعر والحساس، لهو دليل إضافي على جسارتها وجدارتها وقوة أعصابها، ومثال على أن رقة المشاعر عند النساء لا تحول دون إثبات أنهن لسن أقل من الرجال قوة وثباتاً وقدرة على الاحتمال في مجال الكشف عن حالات الوفيات الجنائية والمشتبهة والتعامل مع حالات الاعتداءات الجسدية والجنسية.

النشأة

ولدت فاطمة الفاضل بمدينة المنامة في الثالث عشر من يونيو سنة 1980 ونشأت بمدينة الرفاع في أسرة متدينة محافظة معروفة، إبنة لوالدها الشيخ الدكتور عبدالرحمن محمد خليفة الفاضل القاضي بمحكمة الاستئناف الشرعية العليا وخطيب صلاة الجمعة السابق بمسجد نوف النصار بمدينة عيسى ولوالدتها إبنة الشيخ عبدالرحمن علي الجودر (توفي 1989) من عائلة الجودر المحرقية المعروفة. أنهت دراستها الابتدائية بمدرسة الخنساء للبنات بمدينة عيسى، ودراستها الإعدادية بمدرسة الرفاع الغربي الإعدادية للبنات.

من بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة من مدرسة مدينة عيسى الثانوية للبنات سافرت فاطمة في عام 1999 إلى مصر على نفقة أسرتها وسكنت هناك في بيت الطالبات البحرينيات والتحقت بكلية الطب في جامعة القاهرة التي تخرجت منها عام 2008، وأثناء دراستها في الجامعة المصرية كان منهاج الدراسة يتطلب دروسًا عملية في تشريح الجثث، فوجدت في الأمر ما يشبع نهمها في البحث عن الحقيقة، «فكل جثة تحمل الكثير من القصص الغريبة وراءها، وكل ندبة وجرح يكشف أسرارًا خافية تمثل مفاتيح لألغاز تلك الجثة التي غادرت الحياة، وتركت آثارًا تحكي واقعة حدثت لم تجد شاهدًا عليها، فكان البحث في الجثث يعتبر بحثًا فيما وراء الطبيعة» بحسب قولها.

حبها لهذا التخصص دون بقية التخصصات، وعشقها لما يتضمنه من إثارة لم يمنع إصابتها بالدوار وقرب سقوطها مغشيًا عليها حينما شاهدتُ أول جثة لرجل مقتول، لكنها بمرور الوقت صارت عمليات تشريح الجثث مهمة روتينية بالنسبة لها، بل باتت مثل أي عملية جراحية عادية يقوم بها زملاؤها وزميلاتها، إلى درجة صارت معها تنفذ المطلوب منها بمفردها دون خوف أو وجل، بل أضحت تنظر إلى التشريح كمهمة أيسر بكثير من إجراء العمليات للأحياء. وقد سجل عنها قولها في هذا السياق «ربما يخشى الطبيب حدوث ألم أو خطأ طبي في الجراحات، يؤثر سلبًا على مستقبل المريض في حياته، بينما عملي لا يمكن أن يكون به ألم للجثة أو خطأ يؤثر على مستقبلها في القبر».

حينما عادت فاطمة من رحلتها التعليمية في مصر، عملت خلال مرحلة الامتياز (فترة إلزامية مدتها سنة يقضيها الطبيب المتخرج في التدريب السريري كي يصبح بعدها مؤهلاً لممارسة الطب) بمستشفى السلمانية بالمنامة (وضع حجر أساسه عام 1956 وافتتح عام 1959)، لكنها لم تجد ضمن التخصصات المتاحة تخصص الطب الشرعي الذي عشقته وتمنت العمل فيه، كما لم تكن هناك إعلانات لطلب متخصصين أو متدربين في هذا المجال. لذا فإنها عملت لفترة قصيرة في إحدى المستشفيات الخاصة في أعقاب إكمالها لمرحلة الامتياز وراحت تنتظر. فإذا بالصدفة وحدها تقودها إلى حلمها.

وملخص القصة كما روتها بنفسها «جاءني أحد المرضى وكان يعمل في الطب الشرعي، فسألته عما إذا كانوا يبحثون عن أطباء، فأجاب أن كل الأطباء الموجودين غير بحرينيين، فأعطيته رقم هاتفي وطلبتُ منه في حال وجود توظيف أن يتصل بي. وبعد سنة ونصف، وبعد أنْ كنتُ قد يئست، أتاني اتصال من هذا الرجل، وجدته يقول لي: لو مازلت تريدين العمل في الطب الشرعي، فيجب أن تأتين بسرعة لتقديم أوراقك. فلم أنتظر وذهبت صباح اليوم التالي إلى الطب الشرعي وقدمت الأوراق وقبلوني كمتدربة لمدة سنة إبتداء من أول مايو عام 2013، ثم أرسلوني إلى مصلحة الطب الشرعي بمصر لبعض الوقت للتدريب هناك». وبهذا عادت فاطمة إلى البلد الذي أنهت فيه دراستها الجامعية لكن هذه المرة كمتدربة وليست كطالبة.

التدريب في مصر

خلال مرحلة التدريب أولاً في البحرين ثم في مصر، قامت بعدة عمليات تشريح للجثث. ففي البحرين، التي تعد فيها الجرائم قليلة مقارنة بغيرها من الدول، قامت بأربع أو خمس عمليات تشريح ومثلها التعامل مع حوادث الاعتداءات الجنسية والبدنية. أما في مصر فقد كانت أمام جرائم وحالات أكثر عددًا. سألتها جريدة الأيام (مصدر سابق) عن أغرب الحالات التي واجهتها أثناء فترة التدريب، فكان جوابها حالة في مصر لجثة قتيلة مقطوعة نصفين متماثلين بشكل لا يمكن تصوره، فتساءلت عن كيفية قدرة القاتل على فصل الجسد لنصفين متساويين بما في ذلك العمود الفقري، فقيل لها أن الجثة لامرأة ضربها زوجها بساطور فشطرها إلى نصفين. وفي البحرين كان أغرب الحالات التي تعاملت معها حالة جثة رجل توفي صاحبها في شقته منذ فترة طويلة تجاوزت الأسبوع، الأمر الذي تسبب في عفونتها وتكوّن ديدان كثيرة متحركة فوقها، فقامت مع زملائها أولاً بإزالة تلك الديدان بالماء من فوق الجثة ثم قاموا بعملية التشريح المعتادة. هذا إضافة لحالة فتاة آسيوية منتحرة، قامت بتصوير نفسها وهي تنتحر، حيث قامت فاطمة بمشاهدة الفيديو قبل الكشف عليها فوجدته مطابقًا للإصابات التي قد يحتمل معها القتل وليس الانتحار، «لقد كان غريبًا فعلاً أن يقوم إنسان بتوثيق انتحاره ويسلمنا الدليل على عدم تورط آخرين في قتله» بحسب كلامها.

وفي السياق نفسه، شرحت الدكتورة فاطمة جزءًا من طبيعة عملها فقالت: «أولاً نبدأ بالكشف الظاهري وما على الجثة من آثار خارجية، ثم نبدأ من الرأس فنفتح الجمجمة ونخرج المخ للكشف عما إذا كانت هناك أنزفة داخلية، ثم يتم فتح القفص الصدري للبحث عن كسور أو ما شابه، ثم نخرج الرئتين والقلب والأمعاء للبحث عن أي إصابات». وحول حالات الاعتداءات الجنسية التي عـُرضت عليها أثناء عملها أخبرتنا أن المشكلة الرئيسية في مثل هذه الحالات هي أن المجني عليهن عادة ما يحاولن إخفاء أمور حرجة من منطلق أنها بسيطة ولا تستوجب التصريح بها، بينما هي ضرورية في سياق كشف الحقائق ومعرفة عمليات الكذب والتضليل. واستطردت قائلة: «ويأتي التعامل مع الأطفال على رأس الصعوبات في الكشف الجنائي، حيث لا يمكن السيطرة عليهم بشكل كامل مثلما يحدث مع الراشدين».

لكن كيف تعيش امرأة مثلها حياتها خارج نطاق عملها الفريد المرعب، وهي التي تقضي ساعات دوامها في المشرحة بين جثث القتلى والأموات؟ تقول فاطمة إنها بمجرد انتهاء دوامها تمارس حياتها بصورة طبيعية كأي امرأة أخرى، ولا تفكر إلا بما ستفعله صبيحة اليوم التالي، وإنْ كانت بعض الصور، ولاسيما صور الجثث المتعفنة ذات الديدان، تقطع عليها أحلامها وتستولي على مشاعرها في أحايين كثيرة. غير أن ذلك لم يهبط عزيمتها قط ولم يدعها تعيد التفكير في ما عشقته واختارته كمهنة. لذا فهي مصممة على المواصلة من منطلق أن كل مهنة تتضمن شقين أحدهما حلو والآخر مر، خصوصًا وأنها تلقى الدعم والمساندة والترحيب من كل العاملين معها.

وهكذا نجد فاطمة تعمل اليوم بجد ومثابرة في عملها الحالي الشاق والمختلف عن بقية المهن في قسم الطب الشرعي في الإدارة العامة للأدلة المادية (تعتبر هذه الإدارة الجزء الفني والعلمي للنيابة العامة وتعمل تحت إدارة مدنية مستقلة تماما عن جهاز النيابة العامة في مساعدة الأخيرة على تحقيق العدالة بالطرق العلمية من خلال إبداء الرأي وفحص عينات الحالات والقضايا التي تــُحال إليها، علمًا بأن التشغيل الفعلي لقسم الطب الشرعي بدأ في أوائل مارس 2008).

وهي في عملها هذا تبدو غير آبهة بما تقوله صديقاتها عن عملها «المقرف» بحسب وصفهن، كما أنها حريصة على المحافظة على سرية الحالات التي تـُعرض عليها. وفوق هذا كله تحلم ــ مثل كل نساء البحرين الطموحات ــ بإكمال دراستها العليا في تخصص الطب الشرعي سعيًا للحصول على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى