درهم وقاية

التعليم القائم على الطبيعة في كل الأجواء ولجميع الفئات.. التجربة الأمريكية

في مقال مطول نشر عام 2019 على موقع ييس Yes! كتب عالم التربية والتعليم الأمريكي ديفيد تي. سوبِل David T. Sobel – صاحب الكتابات الكثيرة حول قضية تربية وتعليم الأطفال وعلاقته بالبيئة والطبيعة. حمل المقال عنوان: عودة إلى التعليم القائم على الطبيعة.

يقول ديفيد إنه في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكرد فعل على نشوء حركة التصنيع وإزالة الغابات بغير قيود، نشأت حركة في المجتمع الأمريكي تسعى للحفاظ على الطبيعة، فعلي المستوى السياسي نشأ النظام الوطني للغابات وتأسست منتزهات يلوستون ويوسمايت الوطنية. أما على المستوى التعليمي والتربوي فقد بدأت حركة المخيمات الصيفية في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، وتأسست الجمعية الأمريكية لدراسة الطبيعة، وحركة الكشافة والمرشدات، كجزء من حركة اجتماعية للحفاظ على فضيلة اتصال الأطفال بالطبيعة.

ومع بدايات القرن الحادي والعشرين صرنا أمام تحدي تربوي وتعليمي جديد وهو الرقمنة، ومعها وجدنا العديد من الأطفال في سن المدرسة الابتدائية يقضون ما يصل إلى ثماني ساعات في التعامل مع الشاشات كل يوم (أجهزة الحاسوب والتلفزيون وأجهزة الآي فون وأجهزة الألعاب)، وربما يقضون 30 دقيقة فقط في الخارج في العالم الطبيعي. على غرار الاستجابة للتصنيع في بداية القرن العشرين، تستهدف حركة التعليم القائمة على الطبيعة في القرن الحادي والعشرين انتزاع أطفالنا من براثن الحوسبة.

يقول ديفيد سوبِل نقلا عن تقرير صحة الأطفال البيئية في العصر الرقمي Children’s Environmental Health in the Digital Age، إن الإدمان على العالم الرقمي يتسبب في أشكال عديدة من المشاكل الصحية للأطفال – معدلات أكبر للاكتئاب، ومزيد من العزلة الاجتماعية، ونقص في النمو البدني، وزيادة في السمنة، وزيادة معدلات قصر النظر، وزيادة نقص التعلم لدى أطفال ما قبل المدرسة، وانخفاض فيتامين د بسبب نقص التعرض لأشعة الشمس، وترقق القشرة المخية الحديثة قبل الأوان. لذلك، يشعر الآباء بالهلع من تحول أطفالهم إلى مدمنين رقميين، وهم متحمسون لإيجاد بدائل تعليمية تضع أطفالهم على مسار مختلف.

ويقول ديفيد إنه عندما ألف كتابه “ما وراء الرهاب البيئي Beyond Ecophobia” عام 1996 كان التعليم القائم على الطبيعة في مهده، لكنه بعد مرور كل تلك الأعوام انتشر في كثير من البلدات والضواحي والمراكز الحضرية في الولايات المتحدة وفي العالم.

يأخذنا بعد ذلك ديفيد معه في زيارة تجربتين:

الأولى في أطراف شيكاغو، حيث برنامج بدايات طبيعية للطفولة المبكرة The Natural Beginnings Early Childhood program والذي يأخذ الأطفال من 3 إلى 6 سنوات للانغماس في ما يقرب من 400 فدان من البراري والغابات والجداول اللطيفة في محمية غابة مقاطعة كيندال.

وفي هذا البرنامج يلتزم المعلمون باللعب والعمل بالخارج مع الأطفال في معظم اليوم الدراسي، الهواء الطلق، في معظم الأوقات، هو الحجرة الدراسية التي تأخذ الأطفال بعيدا عن الغرف المضاءة بالفلوريسنت والمُلعبة بالبلاستيك والمليئة بالجراثيم في الفضاء الداخلي.

ومثل شعار العاملين في مكاتب البريد “لا مطر ولا برد ولا صقيع ولا ثلج ولا مطر ولا حرارة النهار ولا كآبة الليل يمنع هؤلاء السعاة من الانتهاء السريع من جولاتهم المعينة”، فإن هؤلاء المعلمين والأطفال موجودون بالخارج في جميع أنواع الطقس.

وعلى عكس الفكرة القائلة بأنه “علينا إبقاء الأطفال في الداخل عندما يكون الجو ممطرا وإلا فإن الأطفال يمرضون”، يعتقد معلمو هذه “الحضانة القائمة في الطبيعة” أن وجود الأطفال في الخارج في جميع الظروف الجوية يبني أجهزة مناعة الأطفال ويجعلهم أكثر صحة.

وفي هذه الأجواء يتم ابتكار أنشطة تكسب الأطفال المعارف والمهارات والتوجهات التربوية والتعليمية المطلوبة، “وليس هناك تضحية بالأهداف الأكاديمية الكلاسيكية، يقول ديفيد “إن التطلعات التقليدية لمحو الأمية والاستعداد للرياضيات، وتعلم التوافق مع زملائك في الفصل، وتطوير التفكير الإبداعي كلها تحدث. ولكن هناك أيضا التفكير العلمي، والترابط مع العالم الطبيعي، وتطوير العزيمة والمثابرة والمرونة. وليس هناك أي جهاز رقمي في أي مكان في الأفق”.

التجربة الثانية: وهي من أحد أحياء الملونين الفقراء والمهمشين في لافييت بولاية كولورادو، وهو برنامج لمعالجة الحرمان البيئي الذي يعاني منه المجتمع ذي الأصول اللاتينية.

تأسس البرنامج بمبادرة من مؤسسة “ثورن نيتشر إكسبيريانس Thorne Nature Experience” بتعاون عدد كبير من المؤسسات الأهلية، وبلدية مدينة لافييت، وعدد من المؤسسات التعليمية، واسمه “أطفال الطبيعة في لافييت أو Nature Kids/ Jóvenes de la Naturaleza Lafayette وهو برنامج صمم لربط الأطفال والشباب في لافييت وعائلاتهم بالطبيعة وفي الهواء الطلق من مرحلة ما قبل المدرسة إلى المدرسة الثانوية، ويقدم التعليم البيئي المتكامل للأسرة وبرامج الترفيه في الهواء الطلق.

ويهدف البرنامج لإزالة أي حواجز مادية وثقافية واقتصادية تمنع الكثير من الأطفال والشباب الذين يعيشون في المجتمع من الانخراط في الطبيعة، والمشاركة في التجارب الترفيهية التقليدية.

البرنامج الذي يقول عنه ديفيد إنه أشبه بهبة مجتمع بأكمله يتضمن بناء خمس مناطق لعب طبيعية، وست شرفات مراقبة، وأربعة معابر للمشاة، وأكثر من ميلين من الممرات، ومسارات آمنة موصلة للمدارس.

إضافة إلى 82 برنامجا مختلفا للتعليم البيئي في المدارس الابتدائية، وبرامج لما بعد المدرسة، ودورات للمدارس المتوسطة والثانوية المصممة حديثا، ورحلات ميدانية، ومخيمات صيفية، ومجلس استشاري للشباب، وعطلات نهاية الأسبوع للتخييم العائلي، ومبادرات للتدريب على العمل، ورحلات حقائب الظهر، ومشاريع لترميم الأراضي البرية.

وخلاصة، فإن البرنامج يقدم مجموعة ضخمة من الفرص بدعم من 27 منظمة متعاونة ويتضمن أكثر من 500000 ساعة من البرامج المتخصصة للمشاركين من التلاميذ والطلاب وعائلاتهم تمتد من 2017 إلى 2022.

البحث على جوجل يتيح للراغبين في المزيد من التعرف على أمثال هذه البرامج عشرات الأمثلة سواء في الولايات المتحدة أو غيرها.

د. مجدى سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى