منوعات

كتاب: “المريض H&M”: قصة أهم مريض في تاريخ علم الدماغ

كتاب “المريض هـ.م.: “قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة”، Patient HM: A Story of Memory, Madness, and Family Secrets هو كتاب أخّاذ ألّفه لوك ديتريتش LUKE DITTRICH مركزًا على ثقافة طبية سمحت بتحويل الشاب هنري مولايسن الذي يعاني من الصرع إلى ما يعرف بالمريض هـ. م.، “أهم مريض في تاريخ علم الدماغ”.

أصل الحكاية

في عام 1953، تلقى عامل مصنع يبلغ من العمر 27 عامًا يُدعى هنري مولايسون – والذي كان يعاني من الصرع الشديد – نسخة جديدة جذرية من عملية استئصال الفصوص، والتي استهدفت أكثر الهياكل غموضًا في الدماغ. فشلت العملية في القضاء على نوبات هنري ، لكن كان لها تأثير غير مقصود: تُرك هنري فاقدًا للذاكرة بشدة، وغير قادر على تكوين ذكريات طويلة الأمد. على مدار الستين عامًا التالية، أصبح المريض جلالة الملك، كما كان يُعرف هنري، الشخص الأكثر دراسة في تاريخ علم الأعصاب.

كان جد ديتريش الجراح اللامع والمعقد أخلاقياً الذي أجرى عملية لمولايسون وآلاف المرضى الآخرين. أجبره تحقيق المؤلف في الجذور المظلمة لعلم الذاكرة الحديث في النهاية على مواجهة الأسرار المقلقة في تاريخ عائلته، والكشف عن المأساة التي غذت تجارب جده التي لا هوادة فيها – التجريب الذي من شأنه أن يحدث ثورة في فهمنا لأنفسنا.

يستخدم ديتريش حالة المريض HM كنقطة انطلاق لرحلة متغيرة الألوان، رحلة تنتقل من أول عمليات جراحية للدماغ مسجلة في مصر القديمة إلى أحدث مختبرات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. يأخذ القراء داخل المصحات القديمة وغرف العمليات حيث أجرى الجراحون النفسيون، كما يسمون أنفسهم، تجاربهم البشرية، وخلف كواليس معركة حضانة مريرة حول ملكية أهم دماغ في العالم.

اعتبرت خمسينيات القرن الماضي ذروة الجراحات النفسية، ساد فيها اعتقاد غير مثبت أن إزالة الفصوص الجبهية الكبيرة التي تميز الدماغ البشري عن دماغ أقرب أنسبائه، أي الثدييات العليا، أو تقطيعها ربما يخفف الآلام والأحزان والقلق والاكتئاب، وحتى الفصام، ناهيك عن الأفكار الخطيرة على المستوى السياسي.

القص والتقطيع

من هذا المنطلق، تنافس الجراحون النفسيون في الولايات المتحدة وأوروبا على القصّ والتقطيع، واعتمد كلّ منهم أسلوبه الخاص، فبرز وليام فريمان الذي استخدم مخرز الثلج لاختراق الدماغ عبر محجر العين، بينما اشتهر في بريطانيا وليام سرغنت الذي ادعى أن استئصال الفص الصدغي الإنسي من دماغ ربّات البيوت المكتئبات يضمن تمكّنهنّ من إنجاز الأعمال اليومية على أكمل وجه، بمرح أكثر. أما ويليام بيتشر سكوفيل فكان مختصًا في فتح الجمجمة وتقطيع الاتصالات الدماغية، وكأنّه يقطع قالبًا من الجبن. 

وفي 55 سنة باقية من حياته، مرّ المريض هـ. م. في عيادات أجيال من علماء النفس الذين حاولوا استكشاف تفاصيل فقدان ذاكرته، كما صار موضوع دراسة علماء الأعصاب الذين عملوا على تحديد دور المنطقة المستأصلة من دماغه في صنع الذكريات واستعادتها، علمًا أنّها كيان منحنٍ في عمق الدماغ، أطلق عليه اسم الهيبوكامبوس أو الحصين لأنّه يشبه فرس البحر.

وترتّبت عن هذا الموضوع أوراق بحثية كثيرة وجوائز نوبل وروايات وأفلام، إضافة إلى مذكرات بعض الأشخاص الذين بنوا مهنتهم على مهاجمة دماغ مولايسن، مثل تلك التي كتبتها سوزان كوركين، الطبيبة النفسية التي أبقت هوية هـ.م. مجهولة أكثر من أربعة عقود، حتى وفاته في عام 2008. ومنذ نشر تفاصيل الجراحة وآثارها للمرة الاولى، تحوّل المريض هـ.م. إلى عنصر ثابت في كتب علم النفس.

الجراح الجرئ

تجدر الإشارة هنا إلى أن لوك ديتريتش ليس مجرد كاتب علوم يملك أسلوبًا أمركيًا منمقًا لا ترتاح له الأذن الإنجليزية البسيطة، بل هو أيضًا حفيد ويليام بيتشر سكوفيل، الجراح الجريء والمغامر الذي استأصل الحصين، ومعه الذكريات، من دماغ مولايسن. إذًا، فهذا الكتاب الذي يحمل عنوانًا فرعيًا “قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة”، يصف وضعًا عائليًا غير مريح يستحق أن يُروى.

نظرًا إلى طبيعة إصابات مولايسن، فإنّ هذه الشخصية المركزية بشكل ظاهري في القصة تبقى ظلًا فارغًا في 440 صفحة في الكتاب. فهو يبدو في نصوص المقابلات القصيرة مرتبكًا وبسيطًا، غير قادر على تلوين صورته الخاصة، أو حتى سرد تاريخه الخاص، حتى إنّه ما عاد يستطيع تذكّر الأشياء التي حدثت له قبل الجراحة. أما من احتلّ مركز الاهتمام الحقيقي فهو الجرّاح ويليام بيتشر سكوفيل.

ويعتبر سكوفيل محظوظًا لأنّ حفيده هو الكاتب، فقد نقل الحكواتي الماهر ديتريتش إنسانية جدّه أكثر مما قد يفعله مؤلف آخر، فذكر مثلًا كيف كان سكوفيل، الجرّاح الذي لا يتعب، يعود إلى منزله ليلًا ويؤلّف قصصًا رائعة لابنته (والدة الكاتب). وفي الوقت نفسه، أبقى صورة الجرّاح القاسي والمتهور والمغامر الذي يبدو أحيانًا غير مدركٍ المنهج التجريبي في عمليات جراحية جذرية على أعضاء لا تزال غامضة علميًا.

وفي حال وجود فرضية وراء تقطيعه أنسجة الدماغ وحرقها، فهي لم تكن واضحة. كما أن قلّة منطقه في كثير من هذه الجراحات تقشعرّ لها الأبدان. وكذلك، في الصفحات القليلة الأخيرة، يوضح ديتريتش العنوان الفرعي للكتاب، من خلال تلميح فاضح إلى أن جدته، التي أمضت جزءًا كبيرًا من حياتها موضوعة تحت الرعاية، خضعت لجراحة فصية بيد زوجها سكوفيل قبل أن يطلّقها ويتزوّج من امرأة أصغر سنًا.

تأمل حال الموتى

يتضمّن الكتاب لقاءات أجراها المؤلف مع الذين درسوا حالة هذا المريض، ولا يزالون على قيد الحياة، بينهم ميلنر التي أصبحت الآن في العقد التاسع من العمر.

أما في المواضع التي وجد فيها المؤلّف نقصًا في البيانات، تجده يتأمّل حال الموتى بمن فيهم جده وجدته. كما يصف العمليات الجراحية بأدقّ التفصيلات تقريبًا. فضلًا عن ذلك، الكتاب مليء بالحوار الملفّق والافتراضات، كالملابس التي ربما ارتداها سكوفيل ومولايسن عندما التقيا للمرة الأولى، والسيارات التي قادها سكوفيل، أو حتى ما فكر فيه مولايسن حين كان يتحضّر للعملية الجراحية.

والأكثر إحباطًا بعد هو أن الكتاب خالٍ من المراجع، لذلك لا وسيلة للتحقق من صحة الحوادث الملفقة، أو مصادرها الفعليّة. لكنّ هذه الاستطرادات ليست إلا إزعاجًا طفيفًا مقارنة بالمنعطفات غير المتّصلة التي يسلكها الكتاب في وصف إجازات المؤلف مع ابنته، وتجاربه في هواية مصارعة الثيران. وفي كثير من الأحيان، يضيّع ترابط حججه وتسلسلها في صفحات عديدة، أو حتى في فصول كاملة.

النزاع على الدماغ

بعد لحظات من وفاة مولايسن، تنازع الكثيرون للحصول على دماغه، فتم إرساله إلى جاكوبو أنيزي، الخبير في علم تشريح الأعصاب. لكنّ كوركن، لم تعتبر أن من حقّه القيام بذلك وطالبت بالحصول على الأنسجة. وبعد دراسة الدماغ، ما وجد أنيزي ضررًا في الفص الصدغي وحده، حيث أزال سكوفيل أنسجة المخ الحيوية، ولكن في قشرة الفص الجبهي أيضًا. وحين رأت كوركين تقرير أنيزي، أصرّت أولًا على أن تضرّر الفص حصل بعد التشريح. لكن أنيزي أبرز أدلة على تلف القشرة الجبهية قبل استئصال الدماغ، استنادًا إلى صور بالرنين المغناطيسي. كما أشار إلى أن الضرر كان واضحًا في فحوصات الرنين المغناطيسي التي أجريت تحت مراقبة كوركن في عامي 1992 و1993.

ويشير أنيزي إلى أن ذلك حدث في أثناء الجراحة، عندما رفع سكوفيل الجزء الأمامي من الدماغ للوصول إلى الفص الصدغي والمعقف واللوزة وقرن آمون (أو الحصين). ولتعقيد الأمور أكثر بعد، لفت ديتريتش إلى أن واحدة على الأقل من مشكلات الذاكرة لدى المريض هـ.م. كانت موجودة قبل الجراحة الفصية.

والآن، أصبحت الشرائح التي تحمل أجزاء دماغ هـ.م. في عهدة علماء الأعصاب، لكنّ هذا لا ينطبق على البيانات البحثية الأولية التي جمعتها كوركن خلال 30 عامًا، لأنّها أتلفت جزءًا كبيرًا منها قبل وفاتها.

إذًا، إضافة إلى العقود الضارّة في ممارسة الطب، تظهر التقارير الشاملة في الكتاب كيف قامت الأنا والتقدير الذاتي بتغذية القرارات العلمية والأخلاقية المشكوك فيها، ليس في ذروة العمليات الدماغية فحسب، بل بعد فترة طويلة أيضًا.

وفي نهاية المطاف، تبيّن أن مأساة حياة المريض هـ.م. ازدادت عمقًا. ووفقًا للردود التي أدلى بها في الاستبيانات فهو، خلافًا لما كتب عنه، كان رجلًا حزينًا وحيدًا بلا أمل مستقبلي، ولا مشاعر غضب أو ذنب. فتحت عملية مولايسن الفاشلة أبوابًا في دراسة إحدى أكثر قدرات الإنسان غموضًا، أي الذاكرة. لكنّ العلم مضى قدمًا، وآن الأوان بالتأكيد لمنحه، ودماغه، دفنًا لائقًا.

حول لوك ديتريش

لوك ديتريش صحفي حائز على جائزة المجلة الوطنية ومحرر مساهم في Esquire. هذا هو كتابه الأول، ولوقا ديتريش متاح لقراءات ومحاضرات مختارة. للاستعلام عن مظهر محتمل، يرجى الاتصال بمكتب Penguin Random House Speakers على المتحدثين.

معلومات الكتاب:

الكتاب: “المريض هـ.م.: قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة” Patient HM: A Story of Memory, Madness, and Family Secrets

المؤلف: لوك ديتريتش

الناشر: راندوم هاوس

اللغة: الإنجليزية:

عدد الصفحات: 440 صفحة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى