الحكيم

السعودية “ملاك الثقفي” والتفوق في علم الأمراض التشريحي والإكلينيكي

“ملاك عابد الثقفي”, بحثة سعودية تدرس في عدة علوم بمجال الطب, عشقها للتحصيل جعلها تنال التكريم وتحوز الجوائز، على المستويين السعودي والدولي, منظمة الصحة العالمية ضمت لكتابها بعضًا من دراسات ملاك و كما أنها أحد أهم الباحثين المشاركين في مشروع الجينوم البشري السعودي، وشاركت في تأسيس المختبر الخاص بالمشروع في مدينة الملك فهد الطبية، وتدير المختبر الآن.

كان لديها شغف كبير بالطب بشكل عام. أما اهتمامها بمجال الجينوم والوراثة خاصة، فيعود إلى طفولتها؛ إذ ولدت بمرض وراثي جيني نادر كان سببًا في ترددها كثيرًا على المستشفيات.

 ومنذ سن مبكرة، لمست مدى احتياج مجتمعاتنا العربية إلى هذا التخصص؛ لكثرة الأمراض الوراثية بالمنطقة العربية.

وحين دراستها للطب جاء الإعلان عن إتمام مشروع الجينوم البشري بالسعودية، ومن هنا بدأت “ملاك” البحث عن التخصصات الجديدة ذات الصلة، ووجدت تخصص علم الأمراض الجينية الجزيئية تخصصًا جديدًا وذا مسار محدد في الولايات المتحدة الأمريكية، فقررت الذهاب إلى أمريكا لاستكمال دراستها بعد تخرجها في كلية الطب عام ٢٠٠٥.

كانت “ملاك الثقفي” من القلة التي جمعت الدراسة والحصول على البورد الأمريكي إلى الزمالة في تخصصين دقيقين، وهما: تخصص الوراثة الجينية الجزيئية، وتخصص علم أمراض الجهاز العصبي، إضافة إلى تخصصها العام في مجال علم الأمراض التشريحي والإكلينيكي، مع درجة إدارة أعمال في الإدارة الطبية.

 هذا الخليط من الخبرات، جعلها – في سن مبكرة – قادرة على إدراك أهمية التشخيص الجيني لأورام الدماغ -خصوصًا- منذ سنوات. ولقد عملت في فرق بحثية لوضع الخارطة الجينية لعدة أورام دماغية، أهمها الأورام السحائية.

هذه الدراسات اعتمد بعضها في كتاب تشخيص أورام الدماغ لمنظمة الصحة العالمية عام ٢٠١٦.

كذلك أدركت ملاك الثفي مبكرًا أهمية البحث العلمي الطبي وملء الفجوة بين العمل البحثي والعيادة، وفي هذا الإطار، نجحت في بناء فريق بحثي يعمل يدًا بيد مع الأطباء في تحديد طفرات مهمة ورسم خطط علاجية للمرضى في المملكة العربية السعودية وحول العالم.

والدتها كانت الداعم الأول لها، وتحملت معها سنوات الغربة الطويلة في الخارج، التي تجاوزت العقد من الزمان.

عند عودتها من الخارج، منذ عدة أربع سنوات، كان هدفها المشاركة في مشروع الجينوم السعودي التابع لمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وحصلت على الموافقة لإنشاء مختبر معني بعلوم الجينوم في مركز الأبحاث بمدينة الملك فهد، وبالفعل بدأت العمل، والمفارقة أن المختبر كان يضم باحثات سيدات فقط.

 لكنها لاحظت أن الحاجة إلى أبحاث الجينوم الإكلينيكية تتجاوز أهداف الجينوم السعودي، لذا قررت تحويل المختبر فيما بعد إلى قسم أبحاث الجينوم في عام ٢٠١٧.

كانت مهمة صعبة؛ إذ كانت وحدها مع عدد قليل من الباحثات الجدد ودعم مادي قليل. مع الوقت أصبح القسم من أكثر الأقسام نجاحًا في مركز أبحاث المدينة الطبية، وكذلك المعمل الفرعي (معمل الجينوم السعودي) المتخصص في أبحاث السرطان والأمراض المزمنة كالسكري. يتعاون المعمل مع جهات داخلية وخارجية كثيرة، أهمها معهد كارولنسكا بالسويد، وشركة أبحاث الجينوم ’ديكود جينيتكس‘ في أيسلندا، وجامعة الملك سعود، ومستشفى الملك خالد التخصصي للعيون في الرياض، وغيرهم الكثير.

ما أهمية مشروع الجينوم السعودي

يُعَد المشروع أول برنامج جينوم في العالم العربي، ويرسم خرائط المجموع الوراثي لمئة ألف من مواطني السعودية، بهدف إرساء معايير الطب الشخصي وأُسسه بالمملكة لممارسته في العلاج.

فكرة الطب الشخصي تعتمد على تصنيف المرضى إلى فئات مختلفة، وفق خريطة المادة الوراثية لكل مريض وتفاصيله؛ لتوفير دواء خصوصًا له، أكثر دقةً وكفاءة.

وتوفير قاعدة معلومات وراثية متكاملة، يمكِّن من دراسة البيئة الوراثية لبعض أمراض الدماغ المنتشرة بالسعودية، ومحاولة الحد من انتشار الأمراض الوراثية.

وهو أيضًا يمهد البرنامج الطريق لفحص الأمراض النادرة قبل الزواج وفي أثناء الحمل، ما يسهِّل إجراءات الطب الوقائي، ويقلل العبء النفسي والاجتماعي والاقتصادي للعيوب الخِلقية النادرة.

الجوائز التي حصلت عليها ملاك الثقفي

حصلت الدكتورة ملاك على العديد من الجوائز المحلية والدولية، والعديد من التكريمات أهمها بالنسبة إليها كانت مقابلة خادم الخرمين الشريفين عام 2010 أثناء استقباله لأطباء المملكة، وكذلك حصلت على خطاب شكر من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وحصلت على جائزة مكة للتميز العلمي، من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، بالإضافة إلى حصولها على جائزة الطالبة المتميزة بكلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز، وجائزة لبحثها الذي كان ضمن أفضل عشرة بحوث بالجمعية الأميركية لعلم الأمراض الإكلينيكية في شيكاغو .

كما حصلت ملاك الثقفي على جائزة إنجازات الطلاب السعوديين في الولايات المتحدة، ورشحت لجائزة الباحث الشاب بجمعية علم الأمراض الجزيئية، وفي عام 2014 كانت واحدة ضمن خمسون سيدة متميزة في قمة القيادات النسائية بالمملكة، وفي عام 2015 حصلت على جائزة العالم الشاب في العلوم والتكنولوجيا ” MIT-ASO “، وكذلك حصلت على جائزة السفر من جمعية أخصائي علم الأمراض العصبية، وغيرهم .

طفولة مؤلمة  

في المعتاد يبدأ الأطفال سنين عمرهم الأولى بعلاقات مع أقرانهم، يلهون ويكبرون معاً، لكن الطفلة “ملاك عابد الثقفي” أمضت طفولتها المبكرة مع مخلوقات غير مرئية، رافقتها طفولتها إلى اليوم وهي في أول الثلاثينات من عمرها، وكان لسان حالها يقول: لماذا أنا من دون جميع الأطفال؟ فقد ولدت “ابنة الجوهرتين” وهو اللقب الذي يطلقه أهل مكة على من يعمل والده ووالدته في خدمة الحجيج، وهي تحمل مرضاً في جيناتها يحدث لأربعة أطفال من بين كل 10,000 مولود في المنطقة العربية (فرط التنسج الكظري)، ويعجز المصاب به عن إنتاج ما يكفي من الهرمونات الأساسية، ما يؤدي إلى اضطرابات في التغذية والجفاف وخلل في نظام ضربات القلب، وقد يتطور الأمر إلى حالات قاتله نتيجة انخفاض بالسكر وضغط الدم.

استطاع طبيب إنجليزي في مستشفى الحرس الوطني أن يشخّص مرضها بدقة وهي في الخامسة من عمرها، وأوصى بأن تكمل علاجها في لندن، حينها تمكنت والدتها من مراسلة الدولة لتحصل على أمر علاج خارجي فاصطحبت ابنتها وأرقدتها على السرير الأبيض المجاور لطفل يحمل نفس مرضها في مستشفى لندن. كان أكثر ما يخيفها هو صراخ الطفل المجاور لها من شدة الألم، إلى أن اختفى صوته وعلمت أنه توفّي، فتوقعت أنها ستتبعه فوراً. خصوصاً أنها استمعت من أقربائها وصديقات والدتها وهنّ يرددن: هذه الطفلة لن تعيش طويلاً؛ لشدة ضعفها وكثرة أمراضها.

ما إن عادت ملاك من رحلة علاجها في لندن حتى انفصل والداها تحت ضغوط حياة أسرية غير مستقرة ومشحونة بالخلافات والأزمات المالية، وكافحت بجهدٍ مضاعف في دراستها كونها كانت مضطرة لمراجعةٍ دائمةٍ لمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض. كانت تجمع مصروفها لشراء الكتب، لتضيف لنفسها تعليماً ذاتياً مختلف عن التعليم الرسمي، فقرأت في كل المجالات وبالأخص الأحياء والكيمياء إلى أن تخرجت في الثانوية العامة بنسبة 99,2% وكانت الخامسة على منطقة مكة المكرمة بالقسم العلمي.

تحقق حلمها والتحقت بكلية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وسكنت في السكن الداخلي بعيداً عن أسرتها، لكنها اضطرت إلى أن تعود إلى مكة في سنتها الدراسية الثانية لتستقر مع والدتها وتساهم بمكافئتها المتواضعة في مصروفات البيت إلى درجة أنها كانت مضطرة أن تستقل الحافلة في الخامسة فجراً مع فتيات مكة اللاتي يدرسن في جدة كل يوم وتعود بعد غروب الشمس. لم تكن هذه الفترة سهلة على شابة ضعيفة البنية مثلها. ومرت السنون وتخرجت في كلية الطب، وفكرت أن تنقل معركتها إلى عقر دار غريمتها (الجينات) تلك الكائنات غير المرئية، ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية في جامعة “تفتس” بولاية بوسطن تحديداً حتى تكون قريبة من “هارفارد” حلم جميع المتفوقين عالمياً، فشاركت زميلاتها غرفةً ودورة مياه واحدة نظراً لغلاء المدينة وقلة المكافأة التي تمنحها الدولة للمبتعثين آنذاك (1215 دولار)، حتى وفقت في الحصول على مقعد طبيب مقيم في علم الأمراض الإكلينيكية والتشريحية في جامعه (جورج تاون) العريقة.

كانت ملاك الثقفي تقتنص الفرص لتتعلم الأبحاث وتنشر ما تقدر عليه من حالات نادرة أو دراسات صغيرة. كما قررت ألا تضيّع وقتها وأن تدعم سيرتها فأقدمت على خطوةٍ أعتبرها الجميع جنوناً، حينما ألتحقت ببرنامج الماجستير في “الإدارة الطبية” من أعرق مستشفى في العالم (جونز هوبكنز) بجانب دراستها وعملها اليومي في (جورج تاون).

فاجأت ملاك الثقفي الأمريكان في جامعتي جونز هوبكنز، وجورج تاون بتفوقها وحصلت على الماجستير وبذلك أصبحت أول سعودية في مجال الإدارة والأعمال الطبية.

في جورج تاون حصلت ملاك على أول راتب واستأجرت أول شقة واشترت أول سيارة، وتمكنت من مساعدة أسرتها في السعودية ودعمهم مادياً.

وفي عام 2008 تحقق حلمها الأكبر بحصولها على أول بورد أمريكي في العالم العربي في علم الأمراض الجينية الجزيئية، وتحقق حلمها وهي تتسلم خطاباً من إدارة (جامعة هارفارد) يدعوها لتكون ضمن أعضاء أهم مستشفيات هارفارد العريقة مشيرين في خطابهم إلى أن “وجودها إضافة لهم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى