ريادة

ويلي سميتس.. من علم الغابات إلى تنمية ساكنيها من إنسان وحيوان ونبات

قد يختار الباحث أو العالم أن ينقطع للعلم، تدريسا وبحثا، وذلك أمر لا غبار عليه، وقد يختار أن يلتحم بعلمه في معترك الحياة، فيساهم بعلمه فيما ينفع الناس ويحافظ على البيئة وتنوعها من حوله، وذلك أفضل العلم، وقد اختار عالم الغابات الدكتور ويلي سميتس الطريق الثاني.

هذا الرجل الذي جاوز اليوم الرابعة والستين من عمره، والذي جاء من هولندا حيث ولد وتعلم، وهب أكثر من نصف حياته للغابات في إندونيسيا، ليس لأشجارها ونباتاتها المحلية فقط، ولكن أيضا لحيواناتها والأهم من ذلك للمجتمعات البشرية التي تعيش فيها، في إطار رؤية تكاملية مستدامة، أشبه برؤى محميات المحيط الحيوي، والتي لا ترى حياة للبيئة، إلا في إطار التنسيق والتكامل بين ساكنيها ومكوناتها جميعا، كل ذلك في إطار العديد من المبادرات، التي كانت المجتمعات المحلية حاضرة دائمة فيها.

ويلي سميتس Willie Smits هو ناشط وباحث في مجال الحفاظ على البيئة، وخاصة الغابات المطيرة، وفي مجال الحفاظ على حيواناتها، وهو أيضا رائد اجتماعي، ولد في هولندا في فبراير من عام 1957، يعيش في إندونيسيا منذ عام 1985، وحاصل على الجنسية الإندونيسية، وعلى الدكتوراه من جامعة واجننجن Wageningen University الهولندية عام 1991 في علم الغابات الاستوائية والتربة.

منذ عام 1985، عمل سميتس في محطة أبحاث الغابات الاستوائية في واناريست بمقاطعة شرق كاليمانتان Kalimantan الإندونيسية. وفي عام 1989، صادف سميتس حيوانا من صغار إنسان الغابة orangutan في قفص في السوق، وعندما عاد ومر لاحقا وجده ملقى في كومة من قمامة، وقد كانت هذه نقطة تحول في حياته المهنية، حيث بدأ من عندها في العديد من المبادرات والمشاريع التي شكلت مسيرة حياته فيما يلي هذا التاريخ.

كانت البداية بأن أخذ سميتس إنسان الغابة الصغير الذي وجده إلى المنزل، وظل يراعيه حتى عاد إلى صحته. وسرعان ما أعطاه السكان إنسان غابة آخر لرعايته، وبمرور الوقت تطور عمله في إنقاذ وإعادة تأهيل وإطلاق إنسان الغابة في البرية إلى ما أصبح يُعرف باسم مؤسسة بورنيو لبقاء إنسان الغابة على قيد الحياة Borneo Oranutan Survival Foundation التي تأسست عام 1991، لتصبح بعد ذلك أكبر منظمة لإنقاذ قرود المقاطعة المهددة بالانقراض على مدى ما يزيد الآن عن 30 عاما.

وخلال تلك الفترة توسعت أنشطة المؤسسة من إنقاذ إنسان الغابة وإعادة تأهيله وإطلاق سراحه إلى مراقبة الغابات المطيرة وحفظها وإعادة بنائها، إلى جانب المشاركة الاجتماعية التي تجعل هذا مستداما، كما قام أيضا بدور متزايد في الحملات والدعوة، لجعل محنة إنسان الغابة وموائلها معروفة على نطاق أوسع.

وفي عام 2001 قامت المؤسسة بشراء أرض بالقرب من واناريست تبلغ مساحتها 4900 فدان، كانت سابقا مساحة من الغابات، لكنها أزيلت بسبب قطع الأشجار الميكانيكي والجفاف والحرائق الشديدة، ومن ثم غطتها الأعشاب. كان الهدف من شراء الأرض هو استعادة الغابات المطيرة وتوفير ملاذ آمن لإنسان الغابة المعاد تأهيله مع توفير مصدر دخل للسكان المحليين في نفس الوقت، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم سامبوجا ليستاري Samboja Lestari وتعني “الحفظ الأبدي لسامبوجا”. وكان جوهر المشروع هو “الهندسة البرية” وتعني إعادة التحريج وإعادة التأهيل، من خلال زراعة مئات من الأنواع المحلية، وبحلول منتصف عام 2006 كان قد تم زراعة أكثر من 740 نوعا مختلفا من تلك الأشجار.

المشروع الثالث الذي مثل علامة في مسيرة حياته هو مؤسسة ماسارانج Masarang Foundation، وهي مؤسسة تعمل على جمع الأموال ورفع الوعي لاستعادة غابات الموائل حول العالم وتمكين السكان المحليين من ساكنيها. وفي عام 2007، افتتحت مؤسسة ماسارانج مصنعا لسكر النخيل يستخدم الطاقة الحرارية لتحويل العصير المستخرج يوميا من نخيل السكر (Arenga pinnata) إلى سكر أو إيثانول (وقود حيوي)، مما يعيد الأموال والطاقة إلى المجتمع في محاولة للتحرك نحو مستقبل أفضل للناس، والغابات، وإنسان الغابة، مع توفير 200 ألف شجرة سنويا كانت تقطع كخشب للوقود.

لنخيل السكر عند سكان الغابات في إندونيسيا قيمة كبيرة، حتى إنهم يفضلونه على الذهب مهرا للعروس. وهي شجرة يصفها الدكتور سميتس بأنها “شجرة السحر”، فكل جزء فيها من الجذور إلى الأوراق مفيد للناس. وخلال سنوات بحثه في شمال سولاويزي وأماكن أخرى في إندونيسيا حيث تنمو أشجار النخيل، تعلم سميتس أن الناس لا يستفيدون من الشجرة وخصائصها إلى أقصى حد.

ففي مانادو، عاصمة شمال سولاويزي، يستنزف الناس الأشجار فقط لصنع مشروب كحولي تقليدي، بينما الناس في أماكن أخرى يستنزفون الأشجار لصنع سكر النخيل أو يقطعونها من أجل الساغو sago، وهو نشا مستخرج من لب النخيل. لكن الشجرة لديها المزيد. فعلى سبيل المثال، يمكن معالجة نيرا nira، وهو النسغ الأبيض الذي يتم الحصول عليه من الشجرة، إلى إيثانول. يقول سميتس “يظهر بحثي أنه لا توجد شجرة يمكن أن تنتج وقودا بديلا مثل أشجار النخيل”.

ويضيف “يمكن أن تساعد أشجار النخيل أيضا البيئة. فهي فعالة في منع الانهيارات الأرضية، حتى في الأراضي شديدة الانحدار”. كما تستخدم الألياف عالية الجودة من نخيل السكر على نطاق واسع؛ حيث يقوم بتصديرها إلى أوروبا، حيث تستخدم في أجسام السيارات الفاخرة.

افتتح سميتس مصنع سكر النخيل هذا في توموهون، وفي كل صباح ينتج حوالي 6200 مزارع النسغ للمصنع، يُباع السكر الذي ينتجه المصنع من النسغ في إندونيسيا، كما يصدر إلى هونغ كونغ وأستراليا وسنغافورة وأوروبا، حيث يُعرف باسم Masarang Arenga Palm Sugar.

وكما يذكر سميتس فإن مصنعه منتج وصديق للبيئة، ويمكن أن يصبح نموذجا لأماكن أخرى في البلاد، فـ”هناك ما لا يقل عن ثماني مقاطعات بها وفرة في أشجار النخيل ولكنها لم تفعل الكثير معها”، ويعتقد سميتس أنه إذا استفادت إندونيسيا من نخيل السكر، فلن تكون هناك حاجة لاستيراد السكر بعد عامين، لهذا الغرض، قام بتصميم، ونمذجة، وحاصل على براءة اختراع لما يسمى Village Hub. والذي أظهر من خلاله كيف يمكن لبناء قدرات المجتمع وتمكين المجتمع المحلي أن تعزز التنمية الاقتصادية مع الحفاظ على البيئة الطبيعية.

من المبادرات الأخرى التي عمل عليها سميتس أنه صمم مركز شموتزر للأوليات Schmutzer Primate Center في حديقة حيوان راجونان Ragunan التي افتتحت في عام 2002  بحيث تتمتع حيوانات إنسان الغابة بالحرية والخصوصية في موطن يضم مجموعة متنوعة من أشجار ونباتات الغابات، وشلال ومياه بها سلاحف وأسماك، وحيوانات صغيرة مثل النيص وفئران الغزلان، ويسمح الزجاج الغامق السميك للزوار برؤية إنسان الغاب بينما يكون غير مرئي لهم. وعلى الرغم من أن سميتس لم يكن مهتما في البداية بحدائق الحيوان، إلا أنه الآن يعتبرها ملاذا لإنسان الغابة المصاب والذي تتم مصادرته من المهربين بينما يتم نقل الأصحاء إلى مراكز إعادة تأهيل مؤسسة بورنيو أورانجوتان للبقاء في البرية لإطلاقهم في النهاية في البرية.

في عام 2008 شارك ويلي سميتس مع جيرد شوستر في إعداد كتاب “مفكرو الغابة – تقرير إنسان الغابة، صور وحقائق وخلفية Thinkers of the Jungle – The Orangutan Report: Pictures, Facts, Background” وهو كتاب يقدم وصفا لحياة إنسان الغابة وسلوكه ومصيره، إلى جانب ثروة من المعلومات حول هذه الأنواع المهددة بالانقراض استنادا إلى أحدث الأبحاث، كما يوضح المؤلفان التهديد لبقاء إنسان الغابة من المصالح الاقتصادية والسياسية، واستغلال الطبيعة والجهل والجشع البشري.

حصل سميتس على جائزة ساتيا لينكانا بيمبانجونان Satya Lenkana Pembangunan غير الإندونيسية عام 1998. كما حصل على ما يعادل وسام الفروسية من هولندا لعمله في مجال الحفاظ على الطبيعة والتنوع البيولوجي، وانتُخب في زمالة أشوكا Ashoka Fellowship (والمختصة بريادة الأعمال الاجتماعية) عام 2009.

ختاما، فقد يفسر البعض منا معنى العلم الذي ينتفع به بأنه كتب تقرأ، أو تلاميذ في الجامعات ومراكز الأبحاث، وذلك مما لا شك جزء من المعنى، لكن المعنى الأعمق، هو ذلك الأثر العام الذي تتركه، وتملكه للناس، فهم عندك شركاء فيه، يتناقلونه فيما بينهم جيلا بعد جيل، وهو كذلك تلك المؤسسات التي تستند إلى الحوكمة والتي لا يكون مؤسسها هو عمود خيمتها الذي إذا وقع وقعت من بعده، وأحسب أن الدكتور ويلي سميتس قد فعل هاتين الأخيرتين، ترك أثرا وبنى مؤسسات، وهذا أعمق ما ينتفع به، والله أعلم.

د. مجدي سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى