تعليم

هاريش فيرما.. بطل تبسيط وتطوير تعليم الفيزياء في الهند

من السهل على كل منا أن ينتقد تعليم مادة ما في مراحل التعليم المختلفة، وأن ينتقد معلميها، وأن ينتقد قلة قدرة الطلاب على استيعابها، ولكن من الصعب أن يجعل أحدنا قضية حياته أن يحل تلك المشكلة على كافة مستوياتها، وبكل السبل المتاحة.

وبسبب إنجازه لهذا الصعب، في مادة عسيرة وحيوية في نفس الوقت كالفيزياء وفي بلد شاسع، متنوع كالهند، استحق الأستاذ الدكتور هاريش تشاندرا فيرما Harish Chandra Verma أستاذ الفيزياء في المعهد الهندي للتكنولوجيا في كانبور أن يصبح بطل تبسيط وتطوير تعليم الفيزياء في الهند، وأن يستحق أن يتم تكريمه بالجائزة الوطنية المعروفة باسم بادما شري Padma Shri لعام 2020، وهي من أرفع الجوائز الهندية التي تمنحها الحكومة الهندية سنويا لأصحاب أبرز الإنجازات في خدمة المجتمع الهندي في يوم جمهورية الهند.

كانت بدايات هاريش مع التعليم غير موفقة، لم يكن مهتما بالتعليم، وكانت أسرته تعاني من أوقات صعبة، وكان التكيف صعبا عليه مع نظام تعليمي في ولاية بيهار الهندية حيث كان يعيش يعتمد بالأساس على “حفظ” المقررات عن ظهر قلب، وباءت كل محاولات والده بالفشل في جعله يهتم أو يركز في دراسته. واحتالت والدته الأمية على الأمر وهو في الصف العاشر، بأن حفزته في أحد المناسبات المشهورة بصناعة الحلوى، بأنه إذا جلس إلى جوارها لمدة ساعة ومعه كتبه وكراساته فإنها سوف تمنحه الحلوى التي يحبها، وفي البداية استغل أميتها في مجرد الجلوس، لكنه شيئا فشيئا بدأ يفتح الكتب ويذاكر تمضية للوقت، ومن ثم تحسنت علاقته بالتعليم والمواد الدراسية وتحسنت درجاته.

بعد ذلك، التحق بكلية باتنا للعلوم، حيث كانت البيئة التعليمية محفزة مع معلمين ذوي كفاءة عالية وبنية تحتية عالية الجودة. ولذلك استطاع إنهاء شهادة البكالوريوس (مع مرتبة الشرف) في الفيزياء، وبعد ذلك، حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفيزياء من المعهد الهندي للتكنولوجيا – كانبور.

مفاهيم الفيزياء المتوافقة مع حياة دارسيها

عقب إنهائه الدكتوراه التحق بالعمل كمحاضر بكلية باتنا للعلوم، وكان حلمه فضلا عن أن يساعد طلابه في الحصول على علامات جيدة، أن ييسر بناء بيئة تعليمية تثير في نفوس طلابه حب الفيزياء، وهو مسعى لا زال مستمرا فيه حتى يومنا هذا.

قبيل تعيينه للعمل في الوظيفة كان هاريش قد تعرف على أشهر كتب تعليم الفيزياء في العالم وهو كتاب ديفيد هاليداي وروبرت ريسنيك، وكما يقول هاريش فإنه أحب الكتاب، لأنه كتاب واضح، ومتماسك، وصياغته للمشكلات ممتازة، وقريب الصلة بمناهج الصفوف الحادية والثانية عشرة، لذلك قرر أن يعتبره بداية أساسية جيدة للطلاب الجدد في قسم الفيزياء بالكلية، وعلى مدار أربع أو خمس سنوات بذل جهودا مضنية باستخدام ذلك الكتاب لتحقيق هدفه مع طلاب، من المفترض أنهم من ألمع الطلاب في ولاية بيهار، إلا أنه رغم ذلك لم يستطع أن يجعلهم يفهمون الفيزياء بالطريقة التي يريد.

ومن ثم خرج هاريش من ذلك بأول حكمة في مسيرته التدريسية:

“لقد أدركت أنه لا يمكن تدريس العلوم بمعزل عن غيرها، ودون معرفة الحياة التي يعيشها طلابي. وأن الأمر لا يتعلق بالموضوع، أو بنظرية أو بفصل أو بصيغة أو بمفهوم معين. ومن ثم فكما يقول: كان عليه أن يعرف نوع الحياة التي كان طلابه يعيشونها خارج أسوار الجامعة، ومن ثم احتاج إلى إعادة ضبط منهجه في التدريس وفقا لذلك”.

كانت واقع حياة طلاب هاريش في كلية باتنا أنهم في أغلبهم قد جاءوا من المدن والبلدات الصغيرة في ولاية بيهار، ومن ثم كان عليه أن يدرس لهم وفقا للحقائق التي يعيشونها في واقعهم، حتى يكونوا مستريحين في فهم واستيعاب المعرفة التي ينقلها لهم، ومن ثم، فإنه وإن كان كتاب هاليداي وريسنك كتابا ممتازا، إلا أنه لم يكن متوافقا مع حياة طلابه، وهنا بدأ هاريش يسعى للبحث عن أحد يكون قد صاغ نسخة من كتابهما وبنفس الأصالة والوضوح والتماسك، ولكن بما يتوافق مع حياة الطلاب العاديين في بيهار، ولما لم يجد بغيته، ولما كانت كل كتب الفيزياء التي ألفها هنود، مجرد بيانات وحقائق علمية صماء.

ولما كان ذلك كذلك، كان عليه أن يواجه التحدي وأن يقوم بنفسه بإعداد ذلك الكتاب المدرسي الذي يتناسب مع طلابه، والذي يكون في ذات الوقت أصيلا، وواضحا، ويمس قلوب طلابه، ومن ثم أمضى ثمانية أعوام يعد محتوى كتابه “مفاهيم الفيزياء Concepts of Physics” الذي صدر في مجلدين عام 1992، وصمد وأثبت جودته وحسن قبوله وسط الطلاب طوال كل تلك السنين.

التجارب والعروض التوضيحية

بحلول عام 1994 كان هاريش قد انتقل للعمل كعضو هيئة تدريس بمعهد التكنولوجيا الهندي- كانبور، حيث كان يتولى تدريس طلاب بكالوريوس التكنولوجيا، وهناك أدرك أن المشكلات المرتبطة بتدريس الفيزياء لم تكن مقصورة على ولاية بيهار، وأنها مشكلة وطنية، وأن طلاب معاهد التكنولوجيا الهندية، والتي كان يلتحق بها أفضل وألمع الطلاب من جميع أنحاء الهند، لكن ما رآه من مشكلات في كلية باتنا، كان يتكرر في طلاب البكالوريوس بالمعهد، وهي انعدام الرابط بين كل ما درسوه سابقا، وبين حياتهم الحقيقية، مما يؤثر على تعلمهم، وأنك إذا كنت تفهم المفاهيم الأساسية جيدا بما فيه الكفاية، فسوف تستطيع أن تنشئ حلولا جديدة، وأن تبتكر بمفردك، وهو ما كان غائبا عن طلاب السنة الأولى بالمعهد.

كانت المشكلة في الطريقة التي يتم بها تدريس الفيزياء لطلاب الصفوف من التاسع إلى الثاني عشر، والتي كان ينتج عنها مخرجات سيئة. وهكذا، وفي أوائل عام 2002، بدأ التفاعل مع المعلمين من جميع أنحاء الهند، وخاصة أولئك الذين يقومون بتدريس المدارس الثانوية من خلال الرابطة الهندية لمعلمي الفيزياء (IAPT). عندها قرر إنشاء محتوى للهند بأكمله. فبدأ بتطوير التجارب التي يمكن استخدامها من قبل المعلمين كعروض توضيحية (DEMOs) في فصولهم الدراسية، والتي تكون مدتها دقيقة أو دقيقتين والتي يمكن تعديلها في حصة دراسية مدتها 40 دقيقة، وذلك بدلا من الاكتفاء بمجرد الرسوم التوضيحية على السبورة.

ومن ثم، فقد قام هاريش حتى الآن بإنشاء ما يقرب من 1000 تجربة للعروض التوضيحية. كما أنه يعقد ورش عمل لمعلمي المدارس مع التركيز على استخدام تدريس الفيزياء القائم على العروض التوضيحية التي تمكن الطلاب من إقامة صلة بين العلم والحياة. كما قام بتدريب أكثر من 8000 مدرس. ووفقا للتعليقات التي تلقاها، فقد قام حوالي 1000 منهم بتغيير نهجهم في التدريس، مما أدى بهم إلى إنشاء تجاربهم التوضيحية الخاصة فضلا عن استخدام تجاربه أيضا.

حركة معامل الفيزياء

في إطار عمله المستمر في هذا المسار، ينظم هاريش مخيمات تستمر من 5 إلى 7 أيام لتدريب المعلمين في كانبور بشكل منتظم، ومن رحم تلك المخيمات، والورش وما يجري فيها من نقاشات، افتتح 26 معلم معاملهم الخاصة، والتي أطلق عليها اسم “أنفيشيكا Anveshika“، ومع نمو أعداد تلك المعامل، تم في عام 2011 تأسيس الشبكة الوطنية لمعامل الفيزياء في الهند National Anveshika Network of India (NANI) والتي أصبحت برنامجا فريدا تابعا للرابطة الهندية لمعلمي الفيزياء، وفي خلال الأعوام التسعة التي مضت على تأسيس البرنامج، توسع ليغطي 26 مدينة هندية. ويتم قيادة جميع تلك المعامل Anveshikas في الغالب من قبل معلمي المدارس، الذين يقومون بهذا العمل طواعية إلى جانب الوفاء بالمهام التدريسية في مدارسهم، حيث يجدون الوقت للتدريس في تلك المعامل، وإدارتها، ودعوة الطلاب والمعلمين من المدارس الأخرى من أجل تعليم أفضل.

ومن عباءة الشبكة نشأ مشروع آخر اختبار معامل العلوم الوطني للمهارات التجريبية National Aveshika Experimental Skill Test (NAEST)، وهو حدث سنوي يستهدف تشجيع ثقافة التجارب العلمية حيث يتم تنظيم مسابقة وطنية للمدارس والكليات، من خلال شبكة المعامل، حيث يفد آلاف الطلاب من المدارس والكليات من جميع أنحاء الهند للاختبار كل عام، ويتبارون في تصميم تجارب جديدة وتقوم جميع المعامل الـ 26 بتكرارها في مراكزهم، حيث تخضع للتقييم. وفي الجولات النهائية، لا يحددون أي مهلة زمنية للطلاب لإكمال تجاربهم، ولا يسمح لأي طالب بالمغادرة دون إكمال التجربة وفهم العملية العلمية التي تقف وراءها، والهدف من ذلك هو التأكد من تعلمهم.

دورات الإنترنت المجانية

اليوم، وعلى الرغم من تقاعده عام 2017، أصبح تركيز هاريش الأخير على تقديم دورات مجانية عبر الإنترنت لطلاب البكالوريوس في المدن الصغيرة والبلدات الواقعة في الحزام الهندي. وتقدم هذه الدورات بعد أن عرض عليه معهد التكنولوجيا الهندي – كانبور بعد تقاعده منصة لإدارة هذه الدورات.

تهدف تلك الدورات إلى تهيئة الجيل القادم من معلمي العلوم، سيقوم الطلاب الذين البكالوريوس الآن بتوفير القوى العاملة للمعلمين في جميع المستويات والمدارس والكليات والجامعات وأيضا قيادة البحوث. فلا أحد يهتم بكليات الدراسات العليا في مدن مثل غاتامبور أو جايا أو هوشنجاباد. ومن ثم، فمن خلال هذه الدورات عبر الإنترنت، يحاول هاريش تسهيل وصول هؤلاء الطلاب إلى التعليم الجيد، وتحفيزهم ليصبحوا معلمين جيدين، وفي الوقت نفسه مساعدتهم على الاستمتاع بالفيزياء.

كانت الدورة الأولى التي قدمها تتعلق بأشباه الموصلات في وقت ما من عام 2017، ولكنها كانت باللغة الإنجليزية، وهي لغة أدرك الدكتور هاريش فيرما أنها قد تسبب عوائق أمام التعلم. لذلك، فإنه في العام التالي، قدم ثاني دوراته المجانية على الإنترنت حول نظرية النسبية باللغة الهندية. لقد كانت دورة مدتها ثلاثة أشهر موزعة على 24 محاضرة، كل محاضرة مدتها 30 دقيقة. وقد التحق بها ما يقرب من 18 ألف طالب طرحوا ما يصل إلى 4 آلاف سؤال، وقدم الدكتور هاريش 11 ألف إجابة عليها، أما دورته الثالثة فكانت حول ميكانيكا الكم، وقد التحق بها 29 ألف طالب.

العلم والخير إلى القرى

وكما هو الحال في كل حركات من الحركات التي تقدم للناس ما ينفعهم، والتي يصبح الناس شركاء فيها، فإنها لابد لها من أن تسلك لمنتهاها في مسارين:

– مسار ترتقي فيه الأفكار التطبيقية على سلم الإبداع في تحقيق الغاية منها.

– مسار الوصول إلى الشعيرات الدموية الاجتماعية وأعني بذلك أن تصل بأكسجين وغذاء النفع إلى أبعد مدى في نهاية سلم المجتمع، وأبعد مدى في مسارات خريطته الجغرافية، وأعني بذلك أن تصل إلى الفقراء في القرى والأحياء الفقيرة.

وعلى هذا النهج سارت حركة تبسيط وتقريب الفيزياء، وإذا كان الدكتور هاريش فيرما قد قاد عملية التطور الفكري الإبداعي، ثم شاركه بعد ذلك المعلمون.

إلا أن مسار الوصول إلى شعيرات المجتمع قاده طلاب معهد التكنولوجيا الهندي – كانبور، عبر مبادرتهم “شيشكا سوبان Shiksha Sopan، والتي تسعى إلى مساعدة الأطفال المحرومين الذين يعيشون في القرى المحيطة بالحرم الجامعي. ويشاركهم في مبادرتهم أستاذهم هاريش فيرما، حيث يقدم الطلاب المتطوعون دروسا في مراكز التعلم الخاصة بهم. ويوفرون برامج للمنح الدراسية بحيث يكون للأطفال ما يكفي من المال لشراء الكتب والقرطاسية والزي المدرسي.

هل لنا في أساتذة جامعات مثل هاريش فيرما في بلادنا يهتمون بتبسيط وتطوير طرق تدريس موادهم لكل من طلاب المدارس والجامعات، ويقودون نهضة معرفية عبر بوابات تخصصاتهم؟

د. مجدي سعيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى