نابغون

لُقب بـ “ضحية الفضاء” و”المواطن الأخير”: (سيرجي كريكاليف).. انهيار الاتحاد السوفيتي أجبره على البقاء في الفضاء 311 يومًا محققًا رقمًا قياسيًا عالميًا فُرض عليه!!

“نعتذر, إبقى في الفضاء, لا يمكننا إعادتك إلى الأرض, الدولة التي أرسلتك لم تعد موجودة “. كانت هذه هي الرسالة التي سمعها رائد الفضاء السوفييتي سيرجي كانستانتينافيتش كريكاليف (17 أبريل 2005– 17 أكتوبر 2005) الذي تم إرساله برفقة البريطانية “هيلين شارمان” والسوفيتي الآخر “أناتولي أرتسبراسكي”, لمحطة الفضاء السوفييتية “مير Mir“؛ التى تعد أكبر وأهم محطة حينئذ وتبعد عن الأرض 350 كم بهدف إجراء بعض المهمات البحثية منها دراسة حركة الأرض. بمجرد أن أنهت البريطانية “هيلين”, مهمتها عادت إلى الأرض وبعدها بعدة أيام أنهى فترة البقاء في الفضاء مواطنه “أناتولي” فعاد للأرض أيضاً.. وفي هذه الأثناء, تساءل سيرجي (الذي كان يظن في بداية الأمر أن المأمورية ستستمر لأيام ثم تنتهي!): “عما إذا كان لدي القوة للبقاء على قيد الحياة لإكمال المهمة. لم أكن متأكدًا”. كانت المدة التي من المفترض أن يقضيها في المحطة 5 شهور فقط تفادياً لإصابته بالسرطان أو حدوث ضمور لعضلاته أو تعرضه لأي إشعاعات ضارة، وتراجع جهاز المناعة مع كل يوم، كل ذلك ليس سوى بعض العواقب المحتملة لمهمة فضائية طويلة”.

مع مرور الدبابات عبر الساحة الحمراء في موسكو، ووضع الناس حواجز على الجسور، ومع انتقال (ميخائيل جورباتشوف) والاتحاد السوفيتي إلى سجلات التاريخ، كان (سيرجي كريكاليف) وحده في الفضاء على بعد 350 كم من الأرض، في محطة مير Mir الفضائية التي كان من المفترض أن تكون منزله المؤقت. في الواقع، كان يمكنه أن يعود بنفسه بواسطة كبسولة من نوع Raduga الموجودة على متن المحطة، والتي تم تصميمها خصيصًا للعودة إلى الأرض. لكن استخدامها كان يعني نهاية المحطة Mir لأنه لن يبق أي شخص آخر ليقوم عليها.

بينما كان (سيرجي) في الفضاء، كانت ضواحي أركاليخ، المدينة التي هبط فيها، قد فقدت صفتها السوفييتية وأصبحت الآن جزءًا من جمهورية كازاخستان المستقلة. ولم تعد المدينة التي عاش فيها تسمى لينينغراد، بل أصبحت سانت بطرسبرغ. أثناء وجوده في الفضاء، دار حول الأرض 5000 مرة وتقلصت بلاده أكثر من 5 ملايين كيلومتر مربع.

أُطلق عليه في حينها لقب “آخر مواطن في الاتحاد السوفييتي”. فمع تفكك الاتحاد السوفيتي إلى 15 دولة منفصلة في عام 1991، قيل لـ (سيرجي) أنه لا يستطيع العودة إلى بلاده لأن البلد الذي وعد بإعادته إلى الأرض لم يعد موجودًا! فبقي في المدار ضعف المدة المقررة، لأنهم رفضوا ببساطة إعادته!!.

قبل أربعة أشهر، انطلق (سيرجي)، مهندس الطيران البالغ من العمر 33 عامًا، إلى “محطة مير الفضائية” من “قاعدة بايكونور السوفيتية”، التي تقع في كازاخستان. كان من المفترض أن تستمر مهمة (سيرجي) خمسة أشهر، فلم يُعدّ ليكون في الفضاء لفترة أطول من ذلك. يتذكر (كريكاليف): “بالنسبة لنا، كان هذا بمثابة مفاجأة كبرى. لم نفهم ما كان يحدث. وعندما ناقشنا ما حصل، حاولنا أن نفهم كيف سيؤثر ذلك على صناعة الفضاء”.

وبالفعل أثرت عليها، إذ عَلم (سيرجي) أنه لا توجد أموال مخصصة لإعادته، وظل لمدة شهر يحصل على نفس الإجابة، فقد طلب فريق مراقبة المهمة منه البقاء هناك لفترة أطول قليلاً. مر شهر آخر، ولكن لا يزال الحال نفسه. ونقلت «مجلة ديسكفر» عنه قوله: “إنهم يقولون إن الأمر صعب عليّ، وليس جيدًا بالنسبة لصحتي. لكن البلاد الآن في محنة، وفرصة توفير المال للأزمة يجب أن تكون الأولوية القصوى”.

في حالة (سيرجي)، استغرقت المهمة ضعف المدة المقررة أصلاً. إذ أمضى 311 يومًا في الفضاء، محققًا رقمًا قياسيًا عالميًا في هذه العملية. خلال هذا الوقت، تم تقليص عدد المهمات من أربع إلى اثنتين، ولم يكن في أي منها مكان لمهندس طيران آخر.

باعت روسيا، التي كانت تعاني من مشاكل مالية كبيرة في ذلك الوقت بسبب التضخم المفرط، مقاعدها في صاروخ (سويوز) المتجه لمحطة الفضاء لدول أخرى. على سبيل المثال، اشترت النمسا مقعدًا مقابل 7 ملايين دولار، بينما اشترت اليابان مقعدًا مقابل 12 مليون دولار لإرسال مراسل تلفزيوني إلى الفضاء.

كما كان هناك حديث عن بيع عاجل لـ “محطة مير Mir” بينما هي لا تزال في بيئة صالحة للعمل. كل هذا يعني أن أفراد الطاقم الآخرين عادوا إلى الأرض، في حين أن (سيرجي)، مهندس الطيران الوحيد، لم يتح له العودة بسبب حاجة المحطة له.

محبوسًا هناك في الفضاء، بعيدًا عن منزله، طلب منهم إحضار العسل له من أجل رفع معنوياته. ولكن لم يكن هناك عسل، بل أرسلوا له الليمون والفجل.

رحلة العودة

عاد (سيرجي) أخيرًا إلى الأرض في 25 مارس 1992 بعد أن دفعت ألمانيا 24 مليون دولار لشراء تذكرة لاستبداله برائد الفضاء (كلاوس- ديتريش فليد).

عند الهبوط، ظهر رجل يحمل الأحرف الأربعة “اتحاد الجمهوريات السوفيتي الاشتراكية” USSR وعلم سوفييتي أحمر على بدلته الفضائية. وصف أحد التقارير مظهره بأنه “شاحب كالطحين وتفوح منه رائحة العرق، مثل كتلة من العجين الرطب“. وفي ذلك الوقت كان العالم كله قد سمع عن هذا الرجل الذي لُقب بـ “ضحية الفضاء”.

ساعده أربعة رجال على الوقوف وهو يضع قدميه على الأرض. ألقى أحدهم بمعطف من الفرو فوقه، بينما أحضر الآخر له وعاءً من الحساء. قال (سيرجي) في مؤتمر صحفي بعد ذلك بأيام قليلة: “التغيير ليس جذريًا. عشت على أراضي روسيا، عندما كانت الجمهوريات في الاتحاد السوفياتي واحدة. الآن عدت إلى روسيا، وهي جزء من مجموع الدول المستقلة”. أصبح (سيرجي كريكاليف) بطلًا في بلده وبعد ذلك بعامين انطلق في مهمة فضاء أخرى، هذه المرة كان أول رائد فضاء روسي يسافر على متن مكوك تابع لناسا. وبعد ذلك بسنتين، أول من يطأ محطة الفضاء الدولية الجديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى