مقالات

ظاهرة الامتثال.. لماذا يتبنى بعض الناس الكثير من الأفكار والمعتقدات والآراء غير الصحيحة؟

في خمسينيات القرن العشرين قام الطبيب وعالم النفس الأمريكي – البولندي “سلومون آش”، بسلسلة من التجارب والدراسات لدراسة ظاهرة الامتثال (Conformity) أو التوافق أو التماهي، والتي تعني ما إذا كان الأفراد يتوافقون مع الأغلبية أو يتحدوها، ونتائج هذه التأثيرات على المعتقدات والآراء، وشملت دراسة آثار الامتثال حسب العمر والجنس والثقافة.

شاركت مجموعات من ثمانية طلاب جامعيين في تجارب متتابعة على مهمة بسيطة، وكان جميع المشاركين باستثناء واحد منهم ممثلين، أي أنهم كانوا يعرفون الهدف من التجربة، وكان تركيز التجارب على رد فعل المشارك الحقيقي الوحيد من سلوك الممثلين، والذين تم تقديمهم للمشارك الحقيقي على أنهم مشاركون آخرون.

شاهد كل طالب بطاقة بها خط، متبوعة بأخرى تحتوي على ثلاثة خطوط تحمل الحروف (أ) و (ب) و (ج)، وكان أحد هذه الخطوط هو نفسه الموجود في البطاقة الأولى، بينما كانا الخطان الآخران أطول أو أقصر، وطُلِبَ من كل مشارك أن يقول بصوت عالٍ أي سطر يطابق طول نظيره على البطاقة الأولى.

قبل بداية التجربة، تم إعطاء جميع الممثلين تعليمات مفصلة حول كيفية استجابتهم على كل تجرِبة، وطلب منهم أن يعطوا الإجابة الصحيحة في بعض الحالات وإجابة خاطئة في حالات أخرى، تم جعلت المجموعة جالسة بحيث يكون المشارك الحقيقي هو الأخير في ترتيب الرد دائما.

أكمل المشاركون 18 تجرِبة، في أول تجربتين، أعطى كل من المشارك الحقيقي والممثلون الإجابة الصحيحة، وفي التجربة الثالثة، قام جميع الممثلين بإعطاء نفس الإجابة الخاطئة، وتكررت هذه الإجابة الخاطئة في 11 تجرِبة من التجارب الـ 15 المتبقية.

كان الهدف الرئيس من الدراسة هو دراسة سلوك المشارك الحقيقي، وتحديد نسبة  المشاركين الحقيقيين الذين سيغيرون إجابتهم لتتوافق مع تلك الخاصة بالممثلين، مع أنها كانت خاطئة.

كان لدى تجرِبة (آش) أيضًا حالات تم فيها اختبار المشاركين وحدهم مع من يختبرهم فقط في الغرفة، ودون ممثلين مشاركين.

كانت نتائج التجارب كالآتي:

في الحالة التي تم فيها اختبار المشاركين وحدهم، ومع عدم وجود ممثلين يمثلون قوى ضغط، كان معدل الخطأ أقل من 1٪.

– في حالة وجود الممثلين، بقيت غالبية ردود المشاركين صحيحة (63٪)، لكن أقلية كبيرة من الردود كانت متوافقة مع إجابة الممثلين غير الصحيحة (37٪).

كشفت التجارب أن ثلث الردود غير الصحيحة غالبا ما تطابقت مع الاستجابة غير الصحيحة لمجموعة الأغلبية (أي الممثلين)، وبشكل عام، أعطى 75٪ من المشاركين إجابة واحدة غير صحيحة على الأقل تأثرا بآراء الأغلبية.

أجريت مقابلات مع المشاركين الحقيقيين بعد الدراسة وشملت المقابلات تعريفهم بالغرض الحقيقي من الدراسة، وكشفت هذه المقابلات أن المشاركين الحقيقيين كانوا في كثير من الأحيان “فقط يسايرون البقية ويمتثلون لهم”، وكشفت أيضا عن وجود اختلافات فردية كبيرة، مرتبطة بعوامل مثل التعليم والخبرة والثقة الشخصية في النفس والشك في الذات والرغبة في أن يكون الفرد معياريا أو قياديا أو مستقلا بذاته.

اشتمل تقرير (سولومون آش) على مقابلتين مع مشارك كان مستقلا في كل التجارب، ومشارك آخر امتثل للأغلبية، فقال المشارك المستقل أنه كان يشعر بالسعادة والراحة عند اتخاذ رأيه المناهض لآراء الأغلبية،  لكنه أضاف: “أنا لا أنكر أنه في بعض الأحيان كان لدي شعور أنني يجب أن أساير البقية وأتفق معهم”.

على الجانب الآخر، قال المشارك الممتثل للأغلبية: “لقد شككت في الحلول، لكنني حاولت أن أخرج ذلك من ذهني”، أي أنه كانت لديه شكوك، إلا أنه لم يكن واثقا بما يكفي لمعارضة الأغلبية.

أفاد المشاركون الذين امتثلوا للأغلبية في ما لا يقل عن 50٪ من التجارب أنهم تفاعلوا مع ما أطلق عليه سولومون آش “تشويه الإدراك”، أي أن آراء الأغلبية شوهت إدراكهم لدرجة تبينهم لأفكار خاطئة كانوا يعتقدون أنها صحيحة.

هذه التجارب تعزز ما يسمى “نظرية المقارنة الاجتماعية”، والتي تقترح أنه عند السعي إلى التحقق من صحة الآراء والقدرات، يلجأ الناس أولاً إلى الملاحظة المباشرة، فإذا كانت الملاحظة المباشرة غير فعالة أو غير متوفرة أو غير واضحة، يلجأ الناس إلى الآخرين للمقارنة للتحقق من حقيقة وصحة الاراء والمعتقدات والأفكار وحتى القرارات.

هذا قد يوضح لنا لماذا يتبنى بعض الناس الكثير من الأفكار والمعتقدات والآراء غير الصحيحة، والتي قد تتفق عليها الأغلبية رغم عدم صحتها، وكيف يخضع البعض لآراء ومعتقدات الآخرين بحجة انهم الأكثر أو الأقوى أو الأكثر علما وخبرة.

د. هاني سليمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى