قصة اختراع

بديع الزمان الجزري.. الرجل الذي صنع الروبوت الأول

ولدت الحضارة في تلك اللحظة المنسية في التاريخ التي تعلم الإنسان فيها كيف يمكنه أن يوفر جهده ووقته باستخدام الآلات، فولدت في تلك اللحظة الحضارة والتقنية جنبًا إلى جنب، وصار تقدم الحضارة مرتبط بتقدم التقنية، فكانت العجلة والمحراث وسبك الحديد وسرج الجواد والمغزل كلها علامات على طريق الحضارة، ولعل الرجل المجهول الذي اخترع الفأس بعمله هذا قد أفاد البشرية ولا يزال يفيدها إلى اللحظة أكثر مما افادها عشرات من الأسماء التي نحفظها اليوم.

ولكن التقدم التقني الحثيث الذي شهدته أيام الحضارة الأولى، راح يفتر إلى أن كاد أن يتوقف تمامًا مع صعود الإمبراطورية الرومانية، التي كان عمادها الحرب ولا شيء غير الحرب، فإذا ذكر اليوم مساهمة هذه الإمبراطورية في التقدم العلمي والتقني، ربما لم يذكر إلا بناءها الطرق والجسور التي استخدمت لنقل جيوشها، والتكتيكات العسكرية التي استخدمتها فيالقها. ويمكن اليوم أن نزعم، أنه عند بعثة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت التقنيات المستخدمة في العالم لم تتطور منذ القرن الثالث الميلادي تقريبًا، وكانت كثير من الأدوات والآلات المستخدمة في العالم يومئذ، قد جري ابتكارها منذ قرون مضت ولا زالت على حالها يوم أن ابتكرت. ولكن هذا الحال تغير في العالم الإسلامي، والذي حظي بحالة من السلم – الاجتماعي على الأقل – لم يشهدها العالم منذ قرون، وفرت البيئة المناسبة لعودة التطور الحضاري والتقني.

أصحاب الحيل

كانت التقنية الميكانيكية من هذه التقنيات التي انتعشت مع الإسلام، فالحاجة إلى تقنيات لتطوير الزراعة والري بالذات دعت إلى ظهور طبقة جديدة من المتخصصين، الذين عرفوا باسم أصحاب الحيل لاشتغالهم بعلم الحيل. والحيل المعنية في هذا الاسم لا تحمل المعنى السلبي الشائع اليوم، إذا أنها تعني ببساطة الميكانيكا، وأصحاب الحيل هم مهندسو الميكانيكا في هذا العصر. وقد اشتهر الكثير من بين أصحاب الحيل بابتكاراتهم التي ساعدت في تنظيم الري واستصلاح الأرض وبناء معاصر الزيت وغيرها مما احتاجه اهل زمانهم، ولكنه لم يبق من تراثهم العلمي والتقني الكثير لعزوفهم عن الكتابة، ولعجزهم عن التعبير عما ابتكروه إذ لم يتوسعوا في استخدام الرسم الهندسي، ولكن الوضع تغير مع الجزري.

مولد الجرزي

ولد أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري نحو عام 530ه، في جزيرة ابن عمر – تقع اليوم جنوب الأناضول حيث تعرف باسم جيزرا – ومنها نال لقبه الجزري، كما عرف ايضًا ببديع الزمان، وترجمته تعتمد على تلك الشذرات المتفرقة التي كتبها عن نفسها في كتبه، ومنها نعرف أنه والده كان مهندسًا عمل في خدمة بني أرتق، حكام منطقة الجزيرة وديار بكر، ولعله تلقى العلم على طريقة معاصريه، فبدأ بتعلم العلوم الإسلامية والأساسية، ثم تلقى العلم الذي سوف يتخصص فيه عن مشايخ هذا العلم في عصره، ولأنه ورث وظيفة أبيه، فلنا أن نزعم أن والده كان شيخ علم الحيل يومئذ أو من المقدمين فيه، وظل الجزري الابن في وظيفته في البلاط الأرتقي نحو ربع قرن، ابتكر فيه العديد من الأدوات والآلات لمختلف الأغراض، فأبتكر ساعات مائية وآلات رفع وضخ للمياه، وأما أهم أعماله على الإطلاق فكانت تطويره لنظام ميكانيكي لتوزيع المياه وآخر للصرف الصحي في مسجد وبيمارستان دمشق. ومن بين أعمال الجزري المختلفة، تشد ابتكاراته في عالم الآليات الكثير من مؤرخي العلم، فالرجل توسع في تصميم وتطوير الآليات مثل تصميمه وبناءه لآلة موسيقية على شكل مجموعة من العازفين الذين يقومون بعزف مقطوعة موسيقية يختارها المستخدم من قائمة مقطوعات موسيقية مبرمجة مسبقًا. ومنها ساعة الفيل والتي صممها على صورة فيل يحمل هودج يلف ثعبان على أحد أعمدته، وفي الهودج يجلس قارع طبول، حيث يتحرك الثعبان حول عمود الهودج حركة دورية مدتها ساعة، فإذا انتهت حركته، ضرب قارع الطبول معلنًا مرور ساعة، ومنها أيضًا مرحاضًا على شكل طائر طاووس يسحب مستخدمه ذيله فيصب الطاووس الماء من فمه، وعندما ينتهي المستخدم من الوضوء، يستخدم الذيل مرة أخرى ليتم تصريف المياه من المرحاض، وبفعل حركة الماء أثناء تصريفها يتحرك تمثال على شكل خادم يحمل منشفة يقدمها للمستخدم. وقد دعت هذه الابتكارات عالم الروبوت البريطاني نويل شاركي يعتبر الجزري رائد علم الروبوت.

الجامع بين العلم والعمل

وصف الجزري ابتكاراته هذه في كتابه الذي اسماه “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”، وفي هذا الكتاب يتجلى – من وجهة نظري – اسهام الجزري الحقيقي في تطور الهندسة الميكانيكية، فالرجل الذي رغب أن يصف آلاته بدقة تسمح لمن يقرأ الكتاب من بعده أن يعيد إنتاج هذه الآلات، استخدم طرق مبتكرة في تعيين الأبعاد الدقيقة لمكونات آلاته، كما وصف تفصيلًا عدد من الابتكارات النوعية التي استخدمها آلاته، مثل عمود نقل الحركة واستخدام التروس مختلفة القطر لزيادة أو إنقاص سرعة الدوران، وهذه الابتكارات بالذات سوف تصبح الأساس للمحركات التي نستخدمها اليوم، وقد قدم الجزري كل هذه المعلومات من خلال أسلوب مبتكر ظهرت فيه عناصر الرسم الهندسي الحديث، خاصة في إثبات الأبعاد، وعلاقات عناصر الآلات ببعضها، كما استخدم ولأول مرة في التاريخ ما يسمى بالنماذج (الماكيت أو الموديل) مستخدمًا الورق في صناعة نماذج أولية من ابتكاراته.

تجاهل الجرزي

وقد تعمد مؤرخ العلم الأوربي حفاظًا على تقاليد مدرسته العريقة في انتحال كل ابتكار لها، أن يتجاهل الجزري أو يغمط حقه إن ذكره، على نحو ما فعل المستشرق الأمريكي جيرالد راندل تيبيتس في تعليقه على ترجمة كتاب (الجامع) بأن الجزري كان “مجرد حرفي وليس مهندسًا، يعمل بطريقة التجربة والخطأ، ولم يكن بوسعه أن يدرك المفاهيم والمبادئ المجردة وراء آلاته”، ولكن أستاذ الهندسة الميكانيكية الألماني اوتو ماير في مقدمه كتابه المعنون (أصول التحكم باستخدام التغذية الرجعية) – وهو كتاب تقني نشر في معهد ماسوستش التقني عام 1970  – يشهد للجزري بالأصالة والريادة في الهندسة الميكانيكية، واصفًا كتاب الجزري (الجامع) بأنه أول دليل صناعي في التاريخ. ومنذ سبعينات القرن العشرين، ظهرت العديد من الدراسات في الغرب التي حاولت أن تقيم أعمال الجزري وتأثيره على تاريخ العلم والتقنية وفقًا لمنهجية موضوعية، ومن هذه الدراسات دراسة الأمريكي لين تاونسد وايت التي قارن فيها بين الساعات التي ابتكرها الإيطالي فرانشسكو دي جيورجو ومخططات الجزري الموصوفة في كتابه (الجامع)، مؤكدًا على تأثر دي جيورجو بتصميمات الجزري، خاصة عمود نقل الحركة واستخدام التروس مختلفة القطر التي لم تكن أوروبا تعرفها، وعرفتها عندما قدمها دي جيورجو منتحلًا إياها من أعمال العالم المسلم الذي توفي منذ قرنين. أما محرر دائرة المعارف البريطانية، في نسختها الصادرة عام 2009، فيعتقد أن الفنان والمبتكر الإيطالي الشهير دافنشي قد اطلع على أعمال الجزري وتأثر بها على نحو ما. وهذا التأثير على المبتكرين الأوروبيين، قد تتبعه مساراته مؤرخ علوم ومهندس ميكانيكي بريطاني هو دونالد هيل، أكثر م درس تاريخ التقنية عند المسلمين وتأثر الأوروبيين بها، اذ تتبع هيل تداول كتاب (الجامع) في العالم الإسلامي، ووجود نسخ منه في أماكن مختلفة في سوريا ومصر وشمال افريقيا والأندلس، وكيف ترجم الكتاب إلى اليونانية في القسطنطينية وإلى اللاتينية في الأندلس، ومن ثم وجد طريقه أولًا إلى صقلية في جنوب إيطاليا، ومنه عرفه الكثير من المهندسين والمصممين الإيطاليين الذين اشتهرت أعمالهم فيما بعد، ويربط هيل بين صناعة الساعات المائية التي انتشرت فجأة في إيطاليا وأصبحت مطلوبة لتزيين الكنائس وقصور النبلاء والأثرياء، ووصول كتاب الجزري إلى أيدي المهندسين الإيطاليين، كما يقارن بين التطور المفاجئ الذي حدث في تقنيات رفع وضح المياه المستخدمة في إيطاليا وجنوب فرنسا وبافاريا وبين تلك التقنيات التي ناقشها الجزري بالتفصيل في كتابه.

د. وسام الدين محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى