نابغون

السيرة العلمية للباحث المصري محمد ثروت الذي تفوق على أستاذه “زويل” فى اختصار الزمن من “الفيمتوثانية” إلى “الأتوثانية”

يعتبر العالم محمد ثروت، المصري, ابن محافظة الفيوم، أحد أهم العُلماء في العالم، فى زماننا؛ رحلته العلمية والبحثية بدأت من محافظة الفيوم، فمعهد “ماكس بلانك” بألمانيا، ثم جامعة “كالتك” بالولايات المتحدة الأمريكية؛ بما فيها من دروس، وعِبر، لكل باحث عربي، أهمها؛ أن الإنسان العربي قادر على التحدي، وتحقيق المستحيل؛ لو توافرت له البيئة العلمية اللازمة. والآن تتهافت المؤسسات العلمية الأمريكية على دعم أبحاث د. “ثروت”؛ لما لها من ثمار عملية؛ تُمثِّل دافعًا وحافزًا للعلماء العرب؛ ليحذوا حذوه، بمضاعفة إنتاجهم، وبذل المزيد من الجهد؛ لقيادة عالمنا العربية نحو مستقبل أفضل، والمنافسة بقوة، مع دول العالم المتقدم، في مجال تطوير منظومة البحث العلمي.

قبل 30 سنة، استطاع العالم المصري الكبير والحائز على جائز نوبل, أحمد زويل من رصد حركة الذرات والجزيئات في زمن “الفمتوثانية”، في خطوة علمية هامة، وبعده بعقود، وعلى نفس نهج زويل يأتي العالم المصري الشاب محمد ثروت حسن، ليستكمل المسيرة العلمية لمكتشف الفمتوثانية، حيث يتمكن “ثروت” من رصد حركة الإلكترونات في زمن “الأتوثانية” الأسرع ألف مرة، بل يسعى أيضاً لدمجه بميكروسكوب رباعي الأبعاد.

المسيرة العلمية لـ “ثروت” توجت بحصوله على جائزة مؤسسة “كيك” الأمريكية في العلوم والتكنولوجيا (منفردًا) لدعم أبحاثه بقيمة مالية قدرها 1.1 مليون دولار أمريكي، وهي جائزة تُمنح للباحثين الرواد في مجالهم داخل الولايات المتحدة الأمريكية؛ جراء الأبحاث المتفردة التي قد تُحدث نقلةً نوعيةً في مجال البحث العلمي.

الدكتور ثروت، يعمل أستاذاً بقسم الفيزياء والليزر بجامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية، وحاصل على درجة الدكتوراه من معهد “ماكس بلانك” في ألمانيا، وسبق اختياره ضمن قائمة أبرز العلماء المصريين بالخارج.

“ثروت” من مواليد محافظة الفيوم، كان متفوقاً في الرياضيات والعلوم بأنواعها وخاصة الفيزياء والكيمياء، حتى وصل إلى مرحلة الثانوية العامة، في العام 1999.

في الثانوية العامة وتلبية لرغبة الأسرة، لم يتخصص علمي أو رياضة كما هو الدارج، واختار “المجموعة الشاملة”، ليدرس كل العلوم وهو بطبيعة الحال كان يحبها، ولكن فى السنة الثانية توفي والده، ما أثر عليه نفسياً، وانعكس على مجموعه في النتيجة النهائية بالسنة الثالثة، إذ حصل على نسبة 87.5%، ومن هنا بدأ يتدخل القدر في رسم مسيرته العملية؛ إذ جاء تنسيق الهندسة 88%، أكبر من مجموعه بنحو نصف درجة فقط، حالت دون تحقيق رغبة أسرته، فوقع في حيرة من أمره لاختيار كلية أخرى بعد أن فقد الالتحاق بكلية الهندسة.

المرحلة الجامعية

تزامنت فترة الثانوية واختياره للكلية مع فوز الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل فى مجال الكيمياء، وكانت تلك المُصادفة الغريبة، التي رسمها القدر له؛ بمثابة حافز أوّلي، شجعه على انتهاج الطريق ذاته؛ ولم يكن مُرغمًا على الالتحاق بكلية العلوم، لكن قصة الكفاح المهني للدكتور زويل؛ كانت ملهمة له؛ فضلًا عن عشقه للعلوم الفيزيائية، والرياضيات، والكيمياء، منذ مراحل التعليم الأولى. تشجع وتخصص في قسم الكيمياء، وبالرغم من أنه لم يكن الأول على الدفعة، لكنه من الخمسة الأوائل دائما فيها.

ما بعد التخرج

بعد التخرج، لم يُقبل على دراسة الماجستير فورًا، حيث قرر البحث عن فرصة عمل بشركات قطاع البترول، وفي هذه الاثناء قدم له أحد أصدقائه على منح أكاديمية البحث العلمي، وبالتزامن مع قبوله في منحة الماجستير بمعهد علوم الليزر، ليأتيه تعيين بوظيفة كيميائي بإحدى شركات البترول، براتب كبير(17 ضعف منحة الماجستير)، وكانت مفارقة لطيفة أن يجد نفسه، بعد أن أتعبه البحث؛ أصبح لديه عرضان، في آنٍ واحد؛ وظيفة في شركة بترول، وباحث ماجستير في الجامعة؛ رغم الهوة الشاسعة بينهما.

المفاضلة بين الماجستير والتعيين

هنا كرر القدر لعبته معه، ولكن كانت هذه المرة بشكل مثير، فأثناء مقابلته مع مدير شركة البترول، تحدث معه بكل صراحة عن منحة الماجستير وسأله رأيه في أيهما يقبل؛ ليتفاجأ برده مدير الشركة: “عقد التعيين أمامك من الغد لتبدأ الشغل، ولكن لو حصلت على درجة الماجستير ستبنى نفسك”، ثم قال له نصاً: “ولا تستبعد أن تكون مثل أحمد زويل في يوم من الأيام”.!

الشغف بالعلم للتعلُّم

 بدأ الدكتور ثروت مرحلة جديدة من مسيرته العلمية؛ وهي الدراسة في معهد علوم الليزر، بجامعة القاهرة، وكان الغريب فيها هو؛ الطاقة التي كانت بداخله، لتحمُّله مشاق المسافة الطويلة من محافظة الفيوم. مرت السنوات سريعًا، وحصل على درجة الماجستير، بعد رحلة صعبة، ثم بدأ يبحث عن منحة في الخارج؛ ليس بغرض السفر، ولكن لشعفه بالعلم للتعلُّم.

بعد حصوله على الماجيستير، بدأ “ثروت” في البحث عن منحة فى الخارج، لم يكن هدفه أن يسافر ولكن كان هدفه أن يتعلم أكثر، لأن في هذا الوقت لم يكن هناك اهتمام بالبحث العلمي في مصر، وكان البحث العلمي يجب أن تتولاه بنفسك أو تجد مركزًا بحثياً يستطيع تبني أفكارك وتوفير الإمكانيات لك. قدم “ثروت” على أكثر من 600 تطبيق جديد من الجامعات خارج مصر، فضلاً عن جامعات أمريكية وأوروبية وأسترالية، ودائما ما كان يقابله الرفض أو عدم الرد.!

معهد ماكس بلانك.. بوابة نوبل

كان حلمه وهدفه الأساسي أن يذهب إلى معهد “ماكس بلانك” الألماني، أحد أشهر المعاهد البحثية في العالم، فقدم 5 مرات ورُفض، إلى أن تم قبوله في المرة السادسة وتم تحديد موعد المقابلة في شهر مايو من سنة 2008. ذهبت إلى السفارة الألمانية بالقاهرة؛ للحصول على الفيزا؛ تمهيدًا للسفر، فتفاجأ برد الموظف الذي تلقى منه الصورة؛ بأنها ليست متطابقة، فردعليه “ثروت”: بكل تلقائية: “ألمانيا هي اللي خسرانة”.! فقام ثروت بإرسال “إيميل”، من فوره؛ إلى معهد “ماكس بلانك”؛ شرح فيه تفاصيل الموقف الذي حدث له في السفارة الألمانية، وفي اليوم الثاني؛ تلقي اتصالًا من السفارة الألمانية بالقاهرة؛ يقدمون له فيه اعتذارًا، وطلبوا منه الذهاب لتسلُّم الفيزا، دون مقابل، وقالوا له فى السفارة: “إنت ذاهب إلى معهد ماكس بلانك؛ يعنى نحن من يريدك”، وحينئذ؛ أدرك د “ثروت” مدى أهمية معهد “ماكس بلانك” فى ألمانيا، فمعظم من حصلوا علي جائزة نوبل تخرجوا فيها.

سافر “ثروت” إلى ألمانيا؛ وتسلم العمل في المعهد، وفي أول يوم؛ قرر أن يكون على قدر التحدي؛ الذي وضعه فيه القدر، واجتهد ثروت في عمله؛ ليصبح بنفس خبرة الباحثين الموجودين معه في نفس المجموعة البحثية؛ الأمر الذي تطلَّب منه مجهودًا مضاعفًا.

رحلة الدكتوراه ومولد الأتوثانية

وبدأ “ثروت” رحلة الدكتوراه، فعليًّا؛ في يوليو من العام 2009؛ وانتهى منها في مارس 2013؛ أي في غضون ٣ سنوات وثمانية أشهر فقط؛ ليصبح أسرع باحث فى المعهد، بذلك الوقت؛ يتمكن من الحصول على الدكتوراه، في وقت قياسي، وكان هذا مرجعه؛ إلى أنه كان يعمل وقتًا إضافيًّا وايضع مجهود مضاعف في العمل.

وخلال أبحاث الدكتوراه؛ تمكن من توليد أول نبضات الليزر الضوئية، والموجودة بموسوعة جينس العالمية؛ كأسرع نبضات ليزر ضوئي، واستخدم هذا الليزر لقياس حركة الإلكترونيات داخل الذرة؛ لأول مرة.

الدكتور زويل مع تلميذه د. محمد ثروت

اللقاء بزويل

تعود قصة هذا التحوّل الفارق في حيات د. “ثروت”, المهنية؛ إلى أحد أيام الجمعة، في شهر يوليو، سنة 2012، وكان ومازال في مرحلة الدكتوراه، ولم ينتهِ منها بعدُ؛ حيث تم دعوته إلى مؤتمر، فى مدينة لوزان بسويسرا؛ لإلقاء محاضرة عن أحد أبحاثه الخاصة في الدكتوراه، وكان الدكتور زويل مدعوًّا لإلقاء المحاضرة الختامية، فانتهز “ثروت” تلك الفرصة؛ وأرسل له رسالة، عبر البريد الإلكتروني؛ ليخبره فيها برغبته؛ فى أن يحضر مُحاضرته، لكنه لم يحضر!

انتهت المحاضرة، وغادر “ثروت” القاعة، ولكن القدر لم يتركه في هذا اليوم؛ ليتفاجأ، وهو في طريقه؛ بالدكتور زويل، فتقدم سريعًا لمصافحته، فقال له: “إنت محمد اللي بعتلي إميل ؟!”، فأومأ له “ثروت” برأسه؛ فما كان منه، وبكل تواضع العلماء، إلّا أن بادره بالاعتذار عن عدم حضور المحاضرة؛ لتأخُّر طائرته عن ميعاد المحاضرة، ودعاه زويل لتناول القهوة معه، وبدأ يتحدث معه، بأريحية غريبة، لدرجة أن تحدثا قاربة الساعتين، وفى نهاية اللقاء طلب منه أن يرسل له سيرته الذاتية.

بعد عودة “ثروت” إلى ألمانيا؛ فوجئ برئيس الفريق البحثي، الذى كان يعمل معه؛ يستدعيه إلي مكتبه، ويسأله: “هل قدمت أوراقك للعمل فى جامعة “كالتك” الأمريكية” ؟! فأجبه “ثروت” بالنفي، وهو في حالة استغراب، أنهاها  رئيس الفريق بقوله: “إنّ الدكتور زويل يطلبك للعمل معه، لقد أرسل لي بريدًا إلكترونيًّا؛ يخبرني فيه باختيارك للانضمام إلى مجموعته البحثية، وأنا لن أستطيع تركك قبل عامين؛ لأنك عضو مهم في فريقي البحثي، ويوجد العديد من المشاريع البحثية، التي يتعين علينا إنجازها”. وقع “ثروت” فى حيرة شديدة من أمره؛ وتردد بين تمسُّك أستاذه في معهد ماكس بلانك، ورغبة الدكتور زويل في ضمي لفريقه، حتى حسم اختياره، بعد اتصال، تلقاه من الدكتور زويل نفسه؛ طلب فيه منه السفر لأمريكا، والانضمام إلي فريقه البحثي دون تردد، وهو يقول له: “أنت بقى مش عايز تشتغل معانا ولا إيه يا دكتور محمد ؟!”.

اختصار الزمن

لم يكن أمام ثروت غير تلبية هذه الدعوة، التي وضعته على درجة أعلى في سلم طموحاته، وبعد حصوله على الدكتوراة من “ماكس بلانك” في العام 2013 سافر “ثروت” إلى أمريكا ليصبح، بالفعل عضوًا في الفريق البحثي الخاص بالدكتور زويل، الذي يضم باحثين من جنسيات مختلفة, وكان ثروت حينئذ هو المصري الوحيد بالفريق.

ثلاث سنوات قضاها ثروت في مدرسة د. زويل البحثية تعلم منه الكثير، على المستويين العلمي والإنساني حتى رحيله؛ ليستكمل بعده مسيرته البحثية في مجال اختصار الزمن من “الفيمتوثانية” إلى “الأتوثانية”.

الفارق بين “الفيمتوثانية” و”الأتوثانية”

في عام 1984 تمكن الدكتور أحمد زويل من استخدام الليزر لقياس حركة الجزيئات في التفاعلات الكيميائية، وانتج ذلك تطوير الميكروسكوب رباعي الأبعاد الذي يعمل بسرعة (الفيمتو ثانية)، وأصبح هذا الميكرسكوب أساساً للعديد من التطبيقات، وهنا تسلم د. ثروت” الراية من أستاذه د. زويل لمحاولة الوصول إلى سرعة في شعاع الليزر تفوق الفيمتو ثانية، فوصل إلى زمن (الأوتو ثانية) عام 2016، وبدأ بعد ذلك رحلة التطبيقات.

بعد قرابة 5 سنوات من البحث، تمكن ثروته وفريقه العلمي من استخدام ليزر الأوتو ثانية، ليس فحسب من رصد حركة الإلكترونات داخل الزجاج، بل والتحكم في خواصها لتحويل الزجاج من مادة عازلة إلى مادة موصلة للتيار الكهربائي، وهو العمل الذي تم توثيقه في دراسة نشرتها دورية “نيتشر فونتكس” في 20 ديسمبر 2021، واستطاع د. زويل الوصول لمدى زمني قليل للنبضة بسرعة “الفيمتو ليزر”، وهي مليون مليار جزء من الثانية، والتطوير الذي حدث هو الوصول لزمن “الأوتو ليزر” الذي يفوق الفيمتو ألف مرة، أي ما يعادل مليار من مليار جزء من الثانية.

ثروت والخطط المستقبليةيسعى الدكتور محمد ثروت إلى تطوير الميكروسكوب رباعي الأبعاد ليعمل بسرعة “الأوتو ثانية”، ليحقق نقلة كبيرة تفوق الميكرسكوب الذي يعمل بزمن “الفيمتو ثانية “، والذي أنجزه الدكتور زويل عام 2006.. يقول د. ثروت: “الميكروسكوبات الإلكترونية قبل إنجاز الدكتور زويل كانت نوعين، أحدهما يمسح سطح المادة المراد رؤيتها ويسمى (الميكروسكوب الإلكتروني الماسح) وآخر نافذ يسمى (الميكروسكوب الإلكتروني النافذ)، ووظيفته محاولة رؤية ما تحت السطح. ما أنجزه زويل هو تجاوز رؤية سطح المادة وما تحت السطح، إلى تصوير حركة الجزيئات والذرات داخل المادة، باستخدام شعاع الليزر في سرعة (الفيمتو ليزر)، وما أسعى إليه هو تطوير هذا الميكروسكوب ليعمل بسرعة (الأوتو ثانية)”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى