الاقتصاد الأخضر: قاطرة جديدة للنمو المستدام .. التجربة السعودية
بدأ العالم يدرك مؤخراً الكوارث الناجمة عن استخدامه المُفرط للوقود الأحفوري، من تغير في المناخ وارتفاع في درجة حرارة الأرض ونقص في الغذاء وندرة في المياه، على النحو الذي بات من المستحيل معه معالجة الاختلالات البيئية بمعزل عن السياسة الاقتصادية السائدة، وبات من الضروري وضع تصور لاقتصاد جديد يقوم على احترام البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية مع الحفاظ (في الوقت نفسه) على معدلات نمو جيدة تحسِّن من رفاهية الإنسان. اقتصاد لا يكون الثراء المادي فيه بالضرورة على حساب المخاطر البيئية والندرة الأيكولوجية. ومن هنا تولد مفهوم “الاقتصاد الأخضر”.
ظروف النشأة والتطور
ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر لأول مرة في عام 1989، في أحد البحوث المُعدَّة من قبل «مركز لندن للاقتصاد البيئي»، تحت عنوان «مخطط تفصيلي للاقتصاد الأخضر»، رُبط فيه بين الاقتصاد والبيئة باعتبارها وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الأدوات الاقتصادية والمالية، ومع ذلك لم يحظَ مفهوم الاقتصاد الأخضر بقبول واسع إلا مع اندلاع الأزمة المالية العالمية 2007-2008، وفشل معظم البلدان في الانتقال إلى مسار التنمية المستدامة، وبالتالي أصبح من الواضح أن نموذج التنمية الحالي لا يحقق النتائج المرجوة على جميع الجبهات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
التجربة السعودية
تُعد المملكة العربية السعودية لاعباً أساسياً في قضايا حماية البيئة والتصدي لتغيّر المناخ. وتقتحم اليوم غمار خفض الإنبعاثات الكربونية، المسبّب الرئيسي للتغيّر المناخي من خلال مبادرة ذات شقين، «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»، بالترابط الوثيق في العمل البيئي بين المحلي والإقليمي والعالمي، إذ إن التحديات المشتركة لا تعترف بحدود. وتُنبئ المبادرة بأن السعودية لن تتوقف عند تحمّل مسؤوليتها في المساعي الدولية وفرض موقعها كجزء من الحل.
لا تُقتصر أهداف المبادرة السعودية على خفض الإنبعاثات الكربونية المتأتية من نشاطات جديدة، بل تضع أيضاً خطة عملية لتخفيض تركيزات ثاني أوكسيد الكربون الموجودة في الأجواء، عن طريق إمتصاصها في الغابات والبيئة البحرية. فقد تم الإعلان عن برامج لزراعة 10 مليارات شجرة، ما يوازي تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي السعودية، ويرفع مساحة المناطق الخضراء 12 ضعفاً. ويترافق هذا مع برامج لمعالجة مياه الصرف لإستخدامها في الري بأساليب تعتمد الكفاءة.
الاقتصاد الأخضر ورؤية 2030
في اكتوبر 2021, أعلن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عن إطلاق النسخة الأولى للمنتدى السنوي لمبادرة السعودية الخضراء وتعهد بأن تصبح الرياض واحدة من أكبر المدن المستدامة في العالم.
وأطلق ولي العهد السعودي في كلمة مصورة له، المنتدى السنوي الذي سيُعنى بإطلاق “المبادرات البيئية الجديدة للمملكة، ومتابعة أثر المبادرات التي أُعلن عنها سابقا، بما يحقق مستهدفات مبادرة السعودية الخضراء”، وفقا لوكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس).
وأكد الأمير محمد بن سلمان عزمه تحويل العاصمة الرياض إلى إحدى أكبر المدن المستدامة حول العالم.
وخصصت الحكومة السعودية استثمارات بقيمة تزيد عن 700 مليار ريال من أجل تنمية “الاقتصاد الأخضر” وتوفير فرص عمل وفرص استثمارات ضخمة للقطاع الخاص شمن رؤية 2030.
وكشف ولي العهد السعودي نية المملكة الانضمام إلى “الاتحاد العالمي للمحيطات، وإلى تحالف القضاء على النفايات البلاستيكية في المحيطات والشواطئ وإلى اتفاقية الرياضة لأجل العمل المناخي وتأسيس مركز عالمي للاستدامة السياحية وتأسيس مؤسسة غير ربحية لاستكشاف البحار والمحيطات”، وفقا لواس.
وأكد محمد بن سلمان على أن السعودية تسعى للوصول إلى “الحياد الصفري” عام 2060 عبر نهج الاقتصاد الدائري للكربون و”بما يتوافق مع خططها التنموية وتمكين تنوعها الاقتصادي، وبما يتماشى مع “خط الأساس المتحرك”،ويحفظ دور المملكة الريادي في تعزيز أمن واستقرار أسواق الطاقة العالمية”، حسبما ذكرت الوكالة.
هذا التوجه الأخضر، لا يأتي من فراغ، بل هو متابعة لتحول جذري في السياسات التنموية، بدأ مع «رؤية السعودية 2030»، وهي إستراتيجية شاملة إعتُمدت في العام 2016. وكان من نتائجها إطلاق السعودية في قمة «مجموعة العشرين»، التي إستضافتها العاصمة الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، مبادرة «إقتصاد الكربون الدائري» ذات المضمون الواقعي الجديد. ففي حين يقوم مفهوم «الإقتصاد الدائري» التقليدي على إدارة الموارد بإعتماد ثلاثية تشتمل على تخفيف الإستهلاك، وإعادة الإستعمال، وإعادة التصنيع، فقد أدخلت المبادرة المستحدثة الكربون في العملية الدائرية، وجعلتها رباعية بإضافة مرحلة «الإسترجاع».
من التقارير المهمة التي نُشرت حديثًا تقرير «الاقتصاد الأخضر» الذي أعده مركز التواصل والمعرفة المالية (وزارة المالية السعودية) بالتعاون مع جمعية الاقتصاد السعودية (32 صفحة).
يعود تاريخ الاهتمام بهذا الاقتصاد إلى 2008، عندما أطلقت الأمم المتحدة مبادرة «الاقتصاد الأخضر» التي تألفت من البحث العالمي والمساعدة على المستوى القطري؛ لتشجيع صانعي السياسات على دعم الاستثمارات البيئية في سياق التنمية المستدامة، وبفضل هذه المبادرة وجهود الوكالات الأخرى؛ تم وضع «الاقتصاد الأخضر في سياق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر» على جدول أعمال مؤتمر ريو 20 + لعام 2012، وتم الاعتراف به كأداة لتحقيق التنمية المستدامة.
هناك عدة تعريفات لهذا المفهوم، ومنها هو الاقتصاد الذي يقل فيه انبعاث الكربون، وتزداد كفاءة استخدام الموارد، كما يستوعب جميع الفئات الاجتماعية؛ حيث لم يعد الإنتاج في عالم اليوم بالكم، بل أصبح بالكيف، وبأي موارد وانعكاسات بيئية.
يمكن القول -كما جاء في التقرير-: إن بروز «الاقتصاد الأخضر» جاء بفعل عدد من الأزمات العالمية المترابطة، مثل «الأزمة المالية» و»الأزمة الغذائية» و»أزمة المناخ»، ومن المتوقع أن تُسهم استثمارات القطاع الزراعي في عودته ليكون أكثر ملاءمة للبيئة، وبالتالي يخفف من حدة الفقر الريفي ونزوح السكان إلى المدن، فضلًا عن دوره في حل مشكلة الأمن الغذائي، ودوره في تخفيف الفقر المائي وفقر الطاقة من خلال استراتيجيات تهدف إلى ترشيد استهلاك الموارد الطبيعية، وتخفيف الاستثمار في البنية التحتية الخضراء، كخدمات الطاقة المتجددة ومياه الشرب والصرف الصحي.
ومن الدول الرائدة في القطاع ألمانيا التي تُعد ثاني أكبر الأسواق الأوروبية استثماراً في مجال الطاقة المتجددة، سواء في إنتاج طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية، وبأحدث التقنيات لتحقيق أهدافها الخضراء. إذ سعت إلى حل المشاكل البيئية بالتحول من الوقود الأحفوري إلى استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة، كما عمدت إلى استخدام الموارد المتجددة لتصنيع المواد الأساسية في مجالاتها الحيوية.
وبذلت الحكومة السعودية لتحقيق أهداف «الاقتصاد الأخضر»، العديد من الإجراءات، ومنها: مراجعة السياسات الحكومية وإعادة تصميمها لتحفيز التحولات في أنماط الإنتاج والاستهلاك والاستثمار، وزيادة الموارد، والاهتمام بقطاع المياه وضبط استخدامها وترشيدها ومنع تلوثها، والعمل على الاستثمارات المستدامة في مجال الطاقة وإجراءات رفع كفاءة الطاقة، ووضع استراتيجيات فاعلة لخفض كربون التنمية الصناعية. وفي هذا الطريق تبنت القيادة السعودية بإشراف مباشر من ولي العهد مبادرة «الاقتصاد الدائري للكربون» وأبرزتها في أهم المحافل العالمية، وفي مقدمتها قمة قادة مجموعة العشرين (2020)، للتأكيد على دورها الفاعل في مبادرات إدارة الانبعاثات والتحول إلى الطاقة النظيفة.
الاقتصاد الأخضر لن يحل محل التنمية المستدامة، بل إن تحقيق الاستدامة يكاد يرتكز على إصلاح الاقتصاد، كما يجب أن نعلم أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر لا يتم بقرار فوري، ولكنه عملية طويلة الأجل تحتاج إلى عقود طويلة؛ فهو يحتاج إلى تغيير في السياسات الاقتصادية المرتبطة بأنماط الإنتاج والاستهلاك، والاهتمام بالجانب البيئي في عدد من القطاعات الإنتاجية والخدمية.. دمتم بخير.
تعريف الاقتصاد الأخضر وفوائده
هناك العديد من التعريفات المختلفة للاقتصاد الأخضر، لكن معظم المراجع ترتكز على التعريف الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة للبيئة وهو أن:
الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد يؤدي إلى تحسين رفاهية الإنسان والحد من عدم المساواة على المدى الطويل، مع عدم تعريض الأجيال القادمة لمخاطر بيئية كبيرة وندرة إيكولوجية.
وبتعبير أبسط، فإن الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد منخفض الكربون، وفعَّال من حيث الموارد وشامل اجتماعيًّا.
ويُوجَّه فيه النمو في الدخل والعمالة بواسطة استثمارات من القطاعين العام والخاص، تفضي إلى تخفيض انبعاثات الكربون والتلوث وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة والموارد ومنع خسارة التنوع الأحيائي وخدمات النظم الأيكولوجية. ونلاحظ من خلال هذا التعريف مدى الترابط بين مفهوم الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة، فهو ليس بديلًا عنها، وإنما هو أداة لتحقيق التنمية بمراعاة جدول أعمال القرن 21.
ويتضح من هذا التعريف أن الاقتصاد الأخضر ينطوي على مجموعة من المبادئ، أهمها:
أن الاقتصاد الأخضر وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة.
يخلق العمل اللائق والوظائف الخضراء.
يحمي التنوع البيولوجي والنظم البيئية.
يرتكز على كفاءة الموارد وعلى أنماط إنتاج واستهلاك مستدام.
الاقتصاد الأخضر عادل ومنصف بين البلدان وداخلها، وكذلك بين الأجيال.
أمَّا فوائد التحول نحو الاقتصاد الأخضر، فيمكن رصدها على النحو التالي:
مواجهة التحديات البيئية: عبر خفض انبعاثات الاحتباس الحراري، وتحسين إدارة استخدام الموارد، وتقليص حجم النفايات، وحماية التنوع البيولوجي ووقف استنزاف الغابات.
تحفيز النمو الاقتصادي: يُتوقع أن تؤدي الاستثمارات الخضراء إلى تسارع عجلة النمو الاقتصادي العالمي، خاصة على المدى الطويل لتتفوق على نسبة النمو السائدة.
القضاء على الفقر وخلق فرص عمل: وذلك من خلال توفير العديد من الوظائف الخضراء في مختلف القطاعات الاقتصادية.
خاتمة
هكذا ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر استجابة للعديد من الأزمات التي أقضَّت مضاجع سكان هذا الكوكب، من أجل تحويل المحركات الدافعة للنمو الاقتصادي نحو القطاعات الخضراء الناشئة، وإلى خضرنة القطاعات القائمة، وتغيير أنماط الاستهلاك غير المستدامة، ومِن ثَمَّ نستفيد من الأهمية الكبيرة للاقتصاد الأخضر في مواجهة التحديات البيئية الخطيرة، وتسريع عجلة النمو الاقتصادي، وتحقيق المساواة الاجتماعية والحد من الفقر.
وعلى الرغم من المجهودات التي بذلتها بعض الدول – سواء في صورة برامج أو سياسات أو مبادرات – لتحقيق تقدم في اتجاه الاقتصاد الأخضر، فإنها ما زالت على المستوى الجزئي، حيث إنها لم تشمل سوى قطاعات محدودة من الاقتصاد، ورغم أن هذا يُعد نجاحًا نسبيًّا على المدى القصير، فإننا نأمل في أن تُطبَّق مفاهيم الاقتصاد الأخضر على المستوى الكلي، بحيث تشمل جميع قطاعات الاقتصاد العالمي وأجزائه في أقرب وقت ممكن، وذلك من أجل ضمان أمن وسلامة وحيوية الحضارة الإنسانية.