مقالات

أبرزها “التفتت” و”ثقافة الاستهلاك”.. قراءة في تحديات منظومة العلم والتقنية في الوطن العربي

إن المتابع لحال المجتمع العلمي العربي يتأكد له ان ثمة تحديات تعيق المشروع العلمي العربية، وذلك نتيجة مباشرة لعدم وجود رؤية ومشروع نهضوي حقيقي في الدول العربية تتولد عنه سياسة علمية حكيمة وفاعلة.

التقرير التلاي يلقى الضوء على أبرز تلك التحديات (رغم وجود قدرات علمية بشرية ومادية في البلدان العربية؟):

أولا: الفرقة والتفتت

إن التفتت والتبعثر والتشظي بين الدول العربية، أوضح من الشمس في رابعة النهار. وآثاره المدمرة على هذه الدول وشعوبها مأساوي بكل معنى الكلمة. وينعكس هذا التفتت على منظومة العلوم العربية والتي أصبحت مفتتة أيضاً وتخسر الكثير من فرص التكامل والامكانيات الضخمة التي يوفرها ذلك التكامل والتعاون

وغني عن القول، إن هذه الفرقة أيضاً نتيجة طبيعية للتبعية والاستبداد السياسي في هذه الدول.

ثانياً: التبعية

عندما يتحلى المجتمع أو الدولة بثقافة مستقلة أي غير تابعة، فإنه يمحص ويقيّم الأفكار والمبادئ الواردة من خارجه، ويمكنه تبنيها أو رفضها بما يخدم مصلحته الذاتية ويتوافق مع مبادئه وقيمه. وعلى العكس من ذلك، الدول التي تحمل ثقافة التبعية، أي التي ليست لديها القدرة على التقييم والاختيار والقبول والرفض، فإنها تقبل الغث والسمين بدون ممانعة تذكر، وقد ضربنا لذلك مثل قرار التعليم باللغات الأجنبية بدل اللغة العربية، وما جر ويجر على تلك الدول من كوارث اجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية، أو يمكننا القول زيادة التبعية للأجنبي والتردي في هذا المنحدر.  ومن أشد أنواع التبعية والتي نحن بصددها هنا، التبعية التكنولوجية. ويمكن مشاهدة ذلك في كل ما حولنا. وعلى سبيل المثال، صناعة النفط والغاز في الدول العربية، فرغم مرور حوالي قرن من الزمان لا تزال تابعة بالكامل للتكنولوجيا الغربية، وكذلك الحال في تكنولوجيا تحلية مياه البحر التي تعتمد عليها ومنذ زمن كثير من الدول العربية.

مثال آخر للتبعية، وهو وعلى الرغم من الاتصال المباشر مع الغرب منذ أكثر مائتي سنة، ما زالت الدول العربية لا تمتلك مركزا أو معهدا أكاديمياً واحدا بمستوى عالمي، ولا يوجد مؤشر على ايجاده، رغم ما يسمونها مراكز تميز للبحوث، وهي ليست كذلك بالمعنى الصحيح.

ثالثاً: ثقافة الاستهلاك

إن ثقافة الاستهلاك والهدر مقابل الإنتاج والتطوير، تحكم بارتهان هذه الدول لغيرها. فالدولة التي لا تنتج قوتها ولباسها وعلاجها وسلاحها فضلا عن باقي مستلزمات حياتها، فلا تملك قرارها ولا أمنها ولا اقتصادها، ولا توفر فرص عمل لأبنائها، ولا الكرامة لهم.

ويهمنا هنا، أثر ذلك على منظومة العلوم، فالإنتاج هو المحرك للبحث والمحدد لأولوياته. وبدون الإنتاج يصبح البحث عشوائيا وضعيفاً وبدون دافع أو تنافس أو غاية، ويفقد ممول مهم له، وهو المنتج. ومرة أخرى، لا يوجد أي مؤشر لدى أي دولة عربية بتبني الإنتاج سياسة، ودعم اقتصادها به.

استشراف مستقبل منظومة العلم والتقنية في العالم العربي

في ضوء الصورة العامة التي وضعناها لبيان وضع منظومة العلم والتقنية في الوطن العربي، وفي ضوء التحديات، سنخصص هذا المبحث لوضع معالم مستقبل منظومة العلم والتقنية في العالم العربي.

إن منظومة العلم والتقنية هي جزء لا يتجزأ من المجتمع وتحكمه وتسيس أموره السياسة العامة للدولة، وتحكم توجهاته توجهاتها، ويعكس نجاحه نجاحها وفشله فشلها. ويمثل المجتمع العلمي قطاع مهم وكبير في الدولة، وتهميشه خسارة مركبة على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأمن القومي بكافة جوانبه، ويجب النظر إليه بهذه الصورة ووضعه في مكانه الصحيح، وألا يُعتبر مكملا للصورة وتجميلا لها أمام العالم فقط.

وهذا لن يتحقق إلا بالإرادة الصادقة للسلطة السياسية وبفضل الالتزام الإداري لأصحاب القرار. وهؤلاء هم النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية. أي أنه لن يكون هناك بحث علمي حقيقي إذا لم تتخذ هذه النخب قراراً بربط العلم بالاقتصاد وتبني سياسة الإنتاج بدل الاستهلاك وتسخر العلم لهذا الإنتاج، أي تعتمد سياسة الاعتماد على الذات ونبذ التبعية. ولن يكون هناك تملكاً للعلم بدون هذه، بل ستكون مؤسسات وجامعات علمية ظاهرها لا يعبر عن باطنها.

وكما بينا في المبحث السابق، فلا نكاد نرى أي مؤشر للخروج من هذا النفق، وعليه فإن الدول العربية إن أرادت الخروج منه يجب أن تعد العدة لذلك، وأن لا يكتفوا بالمظاهر الجوفاء والخادعة. يجب إسناد الأمر إلى المخلصين والعلماء ذوي الكفاءة في رسم وتطوير منظومات العلوم الوطنية، وأن يربط العلم بالمجتمع والاقتصاد وكل مناحي الحياة، ليكون علماً نافعا. وإلا فسيكون المستقبل أشد ظلاماً، وستزداد الفجوة المعرفية بين الدول العربية والدول الأخرى، وأخشى أن لا تجد هذه الدول العربية مكاناً لها على خارطة العالم. فهو صراع من أجل البقاء.

التوصيات:

تشجيع التعاون الاستراتيجي العلمي بين البلدان العربية

من الأهمية بمكان, العمل على التعاون الاستراتيجي العلمي بين البلدان العربية، وقد جاء في التقرير الأممي السابق ما يلي: “لن نمل من تكرار أن فرصة أي بلد عربي، أيًا كان، في الفوز منفردًا في ” حرب المعرفة” هذه تكاد تكون منعدمة. وإنما يمر درب الفوز عبر تعاون عربي متين يستهدف الوحدة“.

إن عدم وجود تنسيق بين الرؤى العربية لمستقبل البحث العلمي أو بالأحرى عدم وجود سياسة علمية متكاملة في البلدان العربية، يجعل التعاون العلمي العربي المشترك في أوهن صوره، وهذا يهدر طاقات ويفوت فرصا هائلة على هذه الدول، بل ويضر بمصالحها وأمنها القومي. إن التعاون والتكامل بين الدول العربية ضرورة ملحة وقصوى، نأمل أن تتحقق، ودول الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك.

تبني سياسات الإنتاج وربط العلم بالاقتصاد.

من المهم فهم العلاقة بين البحث العلمي والتأثير الاقتصادي والمجتمعي بشكل أفضل، واستخدام هذا الفهم لتحسين الاستراتيجيات الوطنية لدعم البحث. فإن عدم فهم تلكم العلاقة سيؤدي لا محالة إلى الهدر والانفاق في غير محله، أو ليس في المكان الأمثل، أو قلة تمويل البحث العلمي لعدم وجود مردود له. وعلى هذا ينبغي للجامعات توجيه الاهتمام نحو إنشاء مجتمعات بحثية قوية ومتكاملة والاهتمام بالباحثين على المستوى الشخصي بدلا من الإنفاق في شراء صورا ظاهرية للإنتاج والترقي الخادع في التصنيفات العالمية. وما لم يستهدف البحث والتطوير حل المشاكل الوطنية سيظل يستنزف الموارد بلا مردود.

توطين العلم وبناء مجتمع المعرفة

من المسلمّات، أن ليس هناك نقل ممكن للعلم والتقنية، بل تملّك فقط. فالبحث العلمي عمل مؤسسي مرتبط بنظام التعليم، ليس الجامعي فقط بل ما قبل الجامعي أيضاً. وهو أيضاً مرتبط بالإنتاج وحاجته للمعرفة العلمية. من هنا، لا بد من تطوير مناهج التعليم الأساسي والجامعي بما يضمن إعداد الطالب والباحث بالشكل المطلوب لتحقيق المشروع النهضوي الشامل للدولة. ولا يخفى أهمية الجانب الثقافي والحضاري للأمة.

توطين العلم يستلزم اعتماد اللغة العربية، لغة للتعليم والبحث والإنتاج والتعامل. مع التأكيد على أهمية اتقان اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية للباحثين العلميين. ولكن، يجب التركيز على تطوير اللغة العربية العلمية في منظومة البحث والتطوير العربية، بحثاً ونشراً وتدريساً. فهي متطلب لترسيخ الهوية الوطنية والقومية وبناء مجتمع المعرفة الوطني، كما هو مشاهد في تجارب الدول من حولنا، وليست دولة الاحتلال الصهيوني عنا ببعيد. وكم هو الفرق بين اللغتين؟!  

تبني مبدأ الاعتماد على الذات والتخلي عن التبعية.

فلن يقف أحد إلا على رجليه.

تبني مشروع نهضوي عربي شامل

منظومة العلم والمجتمع العلمي ككل هي جزء من كل، والذي يعانيه البحث العلمي ومخرجاته تعانيه كل نواحي الحياة في بلداننا العربية، بسبب غياب الرؤية الهادفة نحو النهوض العربي الشامل. 

وفي الخاتم

إن منظومة البحث العلمي العربي لا تزال خارج مضمار التنافس العالمي، وتحتاج إلى التفكير الجاد والإرادة الصادقة والعمل الدؤوب لتغيير هذا الواقع.

ومن هنا، فإننا ندعو الحكومات وأعضاء ومؤسسات المجتمع العلمي ومؤسسات المجتمع المدني وأصحاب رؤوس الأموال والشركات والقيادات بمختلف مواقعها في الدول العربية، إلى تبني الإنتاج بدلا عن الاستهلاك، وربط البحث العلمي بالاقتصاد الوطني ليكون رافداً للاقتصاد وليس العكس.  وليكون الشعار هو الاعتماد على الذات والثقة بالنفس والصدق والإخلاص والبعد عن المظاهر الجوفاء، وتبني مشروعاً نهضوياً حضارياً تتكامل فيه جميع فئات المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وينعم أفراده وجماعاته بالعدل والحرية والأمن والسلام

د. موزة بنت محمد الربان

رئيسة منظمة المجتمع العلمي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى