العالم يقرأ

من الزلفي إلى برلين.. سيرة ومسيرة الطبيب السعودي محمد المفرح

يتوقف استشاري الجهاز الهضمي والقولون السعودي, “محمد بن عبد الله المفرح” فى كتابه, “من الزلفي إلى برلين.. سيرة طبيب”، الصادر عن جداول للنشر والترجمة, عند محطات مهمّة في حياته العلمية والعملية. الكتاب عبارة عن مُذَكرات لأطباء سعوديين تجاوزت الحياة السعودية إلى مشاهدات غنية عن واقع مدن ألمانية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، حين كان لبرلين شطران: شرقي وغربي. هذه المحاولة من الدكتور المفرح ليست الأولى التي يكتبُ فيها أطباء سعوديون عن ذكرياتهم، بيدَ أنّ الجديدَ في هذه المذكرات أنّ اثنتين من أصل ثلاث سِيَرٍ تعودُ لأطباء درسوا في ألمانيا.

بدأ الدكتور المفرح هذه السيرة وتوقف طويلًا في المكان الذي شهد ولادته، مدينة الزلفي (وسط نجد) مُشبعًا المكان بمزيد من التفاصيل المهمة ذات الصلة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. جمع المفرح بين العمل الإداري والعمل الطبي, وعمل مديراً للشؤون الصحية بالقصيم عام 1393هـ. وبعد عودته من ألمانيا تسلم العمل في مستشفى الشميسي بمدينة الرياض.

مروءة وريادة

استهل الكتاب بمقدمة للدكتور محمد البراهيم الحمد بعنوان: (مروءة وريادة), وقد خصص الفصل الأول لمسقط رأسه الزلفي (البيئة، والبداية) مستعرضاً وضعها الاجتماعي قبل سبعين عاماً، بعدها ينتقل بالفصل الثاني إلى الرياض، ليدرس المتوسطة والثانوية بالمعهد العلمي والمتوسطة والثانوية الوحيدة بالرياض، ويرى الكهرباء، وسوق المقيبرة وسوق النساء ويتعرف على الفول وخبز التميس والفواكه التي لم يرها من قبل، والذي يبيع الآيس كريم (اللي ما يشتري منوه ينكسر سنوه) وبائع الشربت (التوت) (اشرب التوت قبل تموت)، وعن بيع الثلج في عصر رمضان.. وعن الفرقة الموسيقية التي تعزف موسيقى القرب بين شوارع الثميري والصفاة ودخنة حتى دروازة القرى – قرب المدرسة الأهلية.

أكمل “المفرح”, دراسته المتوسطة وكان ترتيبه الأول مكررًا على منطقة الرياض والثاني مكررًا على مستوى المملكة. ليتقدم للعمل بوزارة الصحة في 1-3-1378هـ ومواصلة الدراسة الثانوية ليلاً. وكان يأمل أن يكون طبيباً، فقد شجعه أستاذه المصري سيد إسماعيل سيد همام الأزهري المتمكن الذي درسه في الابتدائية بالزلفي الدين واللغة العربية، وكذا المدرس خميس سويدان الذي أصبح مذيعاً بعد ذلك والذي كلفه بكتابة موضوع الإنشاء عن الرعاية الصحية وكيف يجب أن تكون بتاريخ 12-3-1374هـ.

توثقت علاقة “المفرح”, بزملائه بوزارة الصحة وبوكيلها ثم وزيرها الدكتور حسن نصيف الذي سهل له أمور بعثته لدراسة الطب في ألمانيا، والذي يعرف مدى جده واجتهاده في عمله مع مواصلة دراسته ليلاً، وسهره لإكمال مراجعة وتدقيق المعاملات الحسابية التي يأخذها معه للبيت لإكمال مراجعتها مع مذاكرته للمقررات الدراسية.. ووالدته مريم الأحمد السكران تطلب منه النوم وتقول له: (يا وليدي أذن الفجر)!! ولسان حاله يقول (من طلب العلا سهر الليالي).

كانت العلاقة حينئذ بين الملكِ سعود بن عبد العزيز وجمال عبد الناصر لا تسيرُ على ما يرام، ولذلك قررت السعودية عدم إرسالِ طلابها للدراسةِ في القاهرةِ، وربما جاء القرارُ يومها لمصلحةِ هذا الشابِ وعدد من زملائه، الذين أُتِيحَت لهم فرصة السفرِ إلى الجامعاتِ الألمانيةِ لدراسةِ الطبِ. سافر “المفرح” إلى ألمانيا ولا بد من المرور على الملحق الثقافي محسن باروم بجنيف – إذ هو الملحق الوحيد في أوروبا – ووجد من سبقه زميليه فالح الفالح وعثمان الربيعة، ويلتحق بمعهد جوته لتعلم اللغة الألمانية وقد حَمّلته والدته ما يحتاجه وما لا يحتاجه المسافر مما أثقل كاهله وهو ينقل حقيبته الكبيرة في القطارات.

 يروي المفرح في مذكراته تفاصيلَ هذه التجربة وحياته في هذا البلدِ المنقسمِ، لكن ما يلفتُ النظرَ في حديثه عن هذه الفترةِ، أنه  تارةً يأتي على ذكر يومياته في الجامعاتِ والمشافي الألمانية، وتارةً أخرى نراه يتحدثُ وكأنه أشبه برحالةٍ أو إثنوغرافي، مما يذكرنا بملاحظاتِ الفرنسي جاك لوغوف حول أحد أعمال جورج دوبي (يوم أحد بوفين) حين يؤكدُ أنّ ما ميزَ كتابه هو “أنّ نظرته للذاكرةِ بدت نظرة عالِم أنثربولوجيا”، ويمكن القول إنّ ذات الاستنتاجِ ينطبقُ على ذكرياتِ طبيبنا السعودي، خاصة عندما يحدثنا عن عاداتِ الألمانِ وأخلاقِهم وطعامِهم.

خفيف الدم ثقيل الوزن

يذكر الكثير من الطرائف التي تحصل من بعض زملائه عن حسن نية، مثل هذا خفيف الدم ثقيل الوزن الذي عندما يتوضأ ويرفع رجله للحوض ليغسلها ينكسر فتطفح الغرفة بالماء ليطردهم صاحب البيت ويطلب منهم الرحيل للبحث عن منزل آخر. وعندما يمرون من تحت جسر يمر من فوقه القطار الكهربائي فتلامس الأسلاك ليطلع منها الشرر مع صوت القطار الذي يشبه الرعد فيردد مع زملائه (سبحان من سبح الرعد بحمده) وغيرها الكثير.

وعن محاولتهم التأقلم وتفهمهم للعادات التي لم يألفوها رغم اقتناعهم من صحتها مثل تقدير الكمية اللازمة للأكل، فكل يأكل ما يطلبه كاملاً أو يتوقف عن ملئ الصحن المعتاد.. فيقول إنه بدأ يطبق هذه العادة الحميدة حتى يومنا هذا.

ويقول المفرح إن أستاذ الرياضيات الدكتور فاتسك دعاهم للعشاء مع والدته ووافق عدد ثمانية أشخاص وهيئت المائدة لهذا العدد ولكن أحدهم دعا زميله الذي لم يسجل اسمه فبقي بلا عشاء لأنه لم يُعدّ إلا للثمانية.

كارتوفِل/بطاطا

ومن بين الأمورِ الطريفةِ التي يأتي على ذكرها والتي تتعلّقُ بطعامِ الألمانِ، أنّ الوجبةَ الرئيسيةَ لهم كانت البطاطا، ولا يكتفي بذكرِ هذه المعلومة بل سرعان ما يتقمّصُ دورَ الانثربولوجي أو المؤرخِ ليعود بنا إلى تاريخِ البطاطا في هذا البلدِ، لنكتشفَ معه أنّها لم تكن موجودةً في هذا البلدِ وأوروبا عموماً قبل أن تُجلَبَ من أميركا الجنوبية، وأنّ البطاطا كانت تُقدّمُ في إيطاليا للخنازيرِ في القرنِ السادس عشر، أما الكنيسة فكانت تسميها خبز الشيطانِ، لكن ملك برويسن (بروسيا) في ألمانيا (فريدريك الثاني) اكتشفَ لاحقاً القيمَ الغذائيةَ للبطاطا، فأصدرَ أمراً، كما يذكرُ طبيبنا المؤرخُ، لزراعتها في أي بقعةٍ … ومما يذكره أنّ الألمانَ كانوا مشهورين بحبِّ البطاطا ( البطاطس)، وأنّ الطليان يعيرونهم بكلمةِ (كارتوفِل/بطاطا) وهم يعيرونهم بكلمةِ (شباقتي/معكرونة). ويقول طبيبنا في مكانٍ آخر أنّ الألماني لا يحبُّ البذخَ، خلافاً لبذخِ الخليجيين المصطنع.

التفكير في العائلة

ما زال يفكر بوضع عائلته بالرياض رغم أنهم يحصلون على نصف مرتبه الوظيفي من الوزارة، ومكافأته الدراسية لا تكفي فينخرط بالعمل ليلتين في الأسبوع ليسهر على رعاية المرضى في مصحات المسنين، أو مساعدتهم في الأكل والشرب أو قضاء الحاجة وتنظيفهم، أو مراقبة المحلول الوريدي، أو أعطاء غذاء عن طريق الأنبوب. كل هذا من أجل تحسين وضعه المادي.. ليتمكن بعد ذلك من شراء سيارة (حج وقضيان حاجة).

وقصته مع المرور رغم أن المحكمة حكمت عليه لخطأ قرره رجال المرور، فيطلب الاستئناف على أن يتحمل المصاريف إن خسر القضية فيصر مرة ثالثة ليتفهم القاضي ويحكم لصالحه.

وعن المرضى الخليجيين ومرافقيهم، ونزول أحدهم بالبيجامة ببهو الفندق، وهذا مخالف للأعراف والسلوك، فيقول ما قاله الإمام محمد عبده في باريس (وجدت إسلاماً بلا مسلمين وغادرت مسلمين بلا إسلام). وعن الدمغة التي يعرف بها أهل نجد وهي المكوى في (العترا) وكيف استدل عليهم من زاروهم ولم يهتدوا على سكنهم إلا مصادفة بهذه العلامة الفارقة ومنهم فوزان الحميِّن – رحمه الله.

وعن تأسيسهم لصندوق الطلبة السعوديين في جميع أنحاء ألمانيا، وتولى فالح الفالح إدارته وتولى المفرح أمانة الصندوق. وعن دور الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف في حل موضوع الطلبة المتعثرين وتوزيعهم على جامعات في دول أخرى. وعن السماح للخريجين بدورة لتعلم اللغة الإنجليزية في لندن بعد ذلك.

ليعود بعد ذلك ويزاول عمله في وزارة الصحة رغم إلحاح زملائه وبالذات فالح الفالح بالانتقال لكلية الطب بجامعة الملك سعود.

يزاول عمله في مستشفى الأمير طلال (الملك عبدالعزيز فيما بعد) فيبدأ بالمناوبة مع زميله جاسر الحربش طول الليل وهم يستقبلون المزيد من المرضى حتى أرهقوا بعد منتصف الليل حتى ليكاد أحدهم أن يخر مغشياً عليه فيشفق عليهم المرضى ليدخلوا لأخذ جرعة من الماء فينظر الحربش إلى وجهه في المراية وإذا هو شاحب لاهب فما كان منه إلا أن قال: «تفو على ها الوجه وعلى إلى خلاك تدرس الطب!!» عندها ضحكنا ونسينا الذي صار، وعدنا لاستقبال الجيوش الأخرى من المرضى.

كُلف باستلام الشؤون الصحية بالقصيم عام 1393هـ على وعد باستكمال التخصص بعد سنتين. ليفاجئ بإضراب أطباء مستشفى الرس والذي تزعمهم اختصاصي الجراحة الوحيد وزوجته اختصاصية النساء والولادة اللذين طلبا الذهاب إلى العمرة. ولم تتم الموافقة عليها لأسباب إدارية ولكنهما أصرا وتركا العمل وحرضا الآخرين على الإضراب. وكيف عالج الموضوع بإنهاء عقود المتزعمين والحسم على البقية عند عودتهم للعمل وإلا يلحقوا بمن أنهيت عقودهم. وانتهى الأمر وعادت الحياة لمجاريها.

يعود لألمانيا للتخصص عام 1394هـ وقد تزوج ورزق بابنه البكر طارق في بريدة وعمره 10 أشهر.

ويحدثنا “المفرح” عن صرامة الأساتذة الألمان، والذي سأل أحد طلبته عن علاجه لأحد المرضى.. وسأله عن الدواء الذي سيعطيه للمريض، وكميته، فأجاب بالاسم الصحيح للدواء. ثم قال إنه سيعطي المريض 50 مجم، فسكت الأستاذ. وعند خروج الطالب رجع مسرعاً قبل إقفال الباب وقال: آسف يا أستاذ إنها 5 مجم وليست 50 مجم، فقال له الأستاذ بأعصاب باردة: إن المريض قد مات الآن، وأنت قد رسبت، وعليك المذاكرة، والرجوع لإعادة الاختبار بعد 6 أشهر.

يقول عن سكان ألمانيا إنهم 82 مليونًا 24 مليونًا كاثوليك و22 مليونًا بروتستانت و4 ملايين مسلم و230 ألف بوذي، و100 ألف يهودي ولكنهم متحكمون في المال والاقتصاد والسياسة والعلم والإعلام. و90 ألف هندوسي، ويعد النمو السكاني صفر بالمئة.

ويقول إن كبير الأطباء ينظف سيارته بنفسه، ويعتني بنظافة ملابسه، وبخاصة الحذاء فهي إحدى علامات نظافة صاحبها. يعود بعدها للعمل فيتولى إدارة مستشفى الشميسي وقد تغير الوزير من جميل الحجيلان الذي أصبح سفيراً في ألمانيا إلى فيصل الحجيلان.

وعن تطوعه مع مجموعة الأطباء أبناء الزلفي للعمل أيام الخميس طبيباً زائراً من 16-2-1427هـ وانتقاد الصحفي صالح الشيحي بأن ذلك تكريس للمناطقية فيرد عليه الأمير سلمان وقتها بمقال له بعنوان: (الإنسان إذا لم يكن وفياً لمسقط رأسه لا يكون وفياً لوطنه).

وتقاعد بعد أن أعير لمدة سنة لإدارة مستشفى التأمينات الاجتماعية ويفتح عيادة يزاول بها مهنته أطال الله عمره وأبقاه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى