تعليم

“كن مثابرًا وواسع الحيلة”.. نصائح طالب دكتوراه مصري لزملائه من شباب الباحثين

“كن مثابرًا”, “كن واسع الحيلة”, “كن مرنًا”, “كن انتقائيا”.. بهذه النصائح توجه الباحث المصري, “محمد شعبان” لأقرانه من الباحثين الشباب عبر مقال نشر مجلة “نيتشر” العلمية, نال استحسانًا وانتشارًا كبيرًا وإشادة من كبار العلماء, عبر السوشيال ميديا, في مصر والوطن العربي. مقال الباحث المصري والذي نشرته “نيتشر” في يوم 13 مايو من الشهر الجاري, في باب “مهن علمية”, جاء تحت عنوان: “كيف يمكن أن تساعدك القدرة على التكيف والمثابرة على الازدهار”, وحظي بتداول كبير على وسائل التواصل الاجتماعي.

في يناير 2011 كان الباحث المصري “محمد شعبان”, قد أتم قبل بضعة أشهر دراسته للحصول على درجة البكالوريوس في الكيمياء الحيوية والكيمياء من جامعة الفيوم في مصر، عندما بلغ المظاهرات ضد الرئيس المصري السابق حسني مبارك, ذروتها على نحو أجّج ثورة في البلاد. كانت إحدى النتائج المباشرة للثورة افتتاح مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، وهي جامعة ومعهد أبحاث، من قبل الكيميائي الحاصل على جائزة نوبل الدكتور “أحمد زويل”، بهدف تنشيط البحث العلمي في مصر والاوطن العربي.

وفي عام 2012 رَفَضت منحة دراسية للحصول على درجة الماجستير في جامعة “غينت” في بلجيكا حتى يكون من أوائل طلاب الدراسات العليا الفخورين بانضمامهم إلى مدينة زويل في وطنه مصر.

لم تسر الأمور بسلاسة كما كان يتمنى “شعبان”؛ كانت هناك سنوات من التأخير، إذ أُسّست برامج الدراسات العليا والمقررات الدراسية في مدينة زويل ببطء من الأساس. التحق في النهاية ببرنامج دكتوراه سريع المسار وأكمل 8 مقررات دراسية، ولكن بعد وفاة مؤسس مدينة زويل في عام 2016 أعادت المؤسسة هيكلة برامج الدراسات العليا.

وطبقا لذلك، تحتم على “شعبان”, جينئذ إعادة التسجيل لدرجة الماجستير بدلاً من درجة الدكتوراه السريعة المسار التي كان قد قبل بها بالفعل؛ وبذلك فقد شعبان جميع المقررات التي درسها والوقت الذي قضاه، وبعد 5 سنوات من انضمامه إلى مدينة زويل بدأ يفقد الأمل.

قرر التقدم مرة أخرى للحصول على منح دراسية للدراسة في الخارج، وتلقي منحة “فولبرايت” الدراسية، وهي منحة من الحكومة الأمريكية للطلاب الدوليين، وانتقل إلى الولايات المتحدة في 2018 للحصول على درجة الماجستير في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الخلوية في جامعة “ستوني بروك” في نيويورك.

وبقدر ما كان يتمنى الحصول على درجة الدكتوراه في مصر، فقد تعلم دروساً مهمة أثناء التدرب في الثقافات الأكاديمية المختلفة التي وجدتها في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

دروس مهمة من الثقافات الأكاديمية المختلفة

كن مرنًا

أنت لا تعرف أبدًا العقبات التي ستُلقى في طريقك، لذلك احرص على أن يكون لديك دوما خطة “ب”، وخطة “ج”.

بعد الماجستير عُرضت علي الفرصة للاستمرار في دراسة الدكتوراه في جامعة “ستوني بروك” في الولايات المتحدة، ومن سوء الحظ اضطررت إلى العودة إلى مصر لحل مشكلة التأشيرة في مارس/آذار 2020.

ومع إغلاق السفارات والحدود بسبب جائحة “كوفيد-19” (COVID-19)، ثم قيام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بإجراء تغييرات على قواعد الهجرة، بدا الأمر كأنني لن أستطيع العودة إلى الولايات المتحدة في القريب العاجل، كما كان نقص التمويل الحكومي الأميركي لطلاب الدكتوراه الدوليين أمرا آخر وضعته في الحسبان.

هنا، حان الوقت للتحلي بالمرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة، وبدء التقديم مجددا إلى المؤسسات الأوروبية. وبالفعل تلقيت عروضا من كل من معهد “فرانسيس كريك” ومعهد “ماكس بلانك” للفسيولوجيا الجزيئية في دورتموند بألمانيا.

كان السفر إلى الخارج من التحديات، بخاصة في الأيام الأولى، عندما واجهت صدمة ثقافية وحنينا إلى الوطن، ومع ذلك ساعدتني الروابط الوثيقة التي كونتها مع الأصدقاء والأساتذة على الاندماج بسرعة في بيئتي الجديدة. كانت سياسة الباب المفتوح الذي تبنّته مديرة برنامج الماجستير في “ستوني بروك”، نيتا دين، مساعدة كبيرة لي. فعلى سبيل المثال، عندما شعرت بالإنهاك النفسي والجسدي الناتج عن ضغط العمل الزائد اقترحت عليّ أن أزور اختصاصي الصحة وأن أعيد تخطيط جدولي ليشمل أنشطة خارجية، وذلك ساعدني على التعامل مع الموقف.

كن انتقائيا

تدريب وتوجيه مشرفك هو الأساس الذي تقف عليه، لذا فإن اختيار المشرف المناسب وبيئة البحث المناسبة يعدّ أمرا بالغ الأهمية، وأُوصي بالبحث عن مجموعة معملية لديها عقلية الفوز المشترك وتمتلك المرونة في مناقشة الأفكار مناقشة حرة من دون قيود.

لم تكن الثقافة الأكاديمية التي عشتها في مصر في مرحلة دراساتي البحثية المبكرة من النوع الذي حلمت به، إذ كانت متجذرة في العقلية الصفرية التي تبدّد المكسب الجمعي وتؤدي إلى أفعال سلبية، مثل تهديد بعض الأساتذة باستبعاد الباحثين ممن هم في بداية حياتهم المهنية من مشاركة أسمائهم على الأوراق البحثية التي عملوا عليها على مدى سنوات، أو تَعَمُّد بعض أفراد المجموعة البحثية إخفاء المعلومات عن بعضهم بعضا.

في البيئة المناسبة، لن تؤدي الخلافات الشخصية إلى انتقام مهني، والأهم من ذلك أن الطلاب الذين يواجهون صعوبات أو تحديات لديهم دوما أبواب يلجؤون إليها للحصول على المساعدة. سأتذكر دائما كلمات مشرفي في مرحلة الماجستير، سايكات شودري، “نجاحك هو نجاحي”.

لقد ساعدني هذا النوع من الدعم على بناء مسيرتي المهنية، كما أوصلني إلى نشر دراسة بحثية كنت مؤلفها الأول في دورية “نيتشر ستركشرال آند موليكيولر بيولوجي”، وقد كشفت تلك الدراسة عن البنية الهيكلية لأحد البروتينات المسؤولة عن تكوين البذرة الأولى التي تنمو منها خيوط الأكتين؛ وهي آلية جزيئية تسهم في تحديد شكل الخلية وحركتها إضافة إلى كثير من الأنشطة الخلوية الأخرى، وهو اكتشافٌ حلّ لغزا حيّر العلماء طوال 20 عاما.

كن واسع الحيلة

إذا كان بلدك يفتقر إلى الموارد أو مؤسستك، ففكر خارج الصندوق واغتنم أي فرص تأتي في طريقك، حتى لو بدا أنها لا تتعلق على الفور بأهدافك.

كنت مكرّسا وقتي للعلوم، لكنني لم أستطع تحمل تكاليف المراجع الإضافية التي كنت أحتاج إليها لإنماء شغفي بالعلوم، ولا السفر إلى القاهرة للمشاركة في ورش العمل. ولحل هذه المشكلة، شاركت في مسابقتين وطنيتين تُعنَى كل منهما بكتابة مقالات وأبحاث في العلوم الإنسانية؛ إحداهما عن حقوق المواطنة في القانون والممارسة، والأخرى عن حقوق الإنسان في اليهودية والإسلام والمسيحية؛ إذ تُخَصَّص لمثل هذه المسابقات جوائز أكبر من تلك التي تُخَصَّصُ لأي من المسابقات العلمية، وقد تُوِّجَت مقالاتي عن حقوق الإنسان والمواطنة وكذلك المسابقات الشعرية التي شاركت بها بعدد من الجوائز التي وفرت لي ما يكفي من المال لتمويل شغفي.

لا تَخش طرق الأبواب وطلب المساعدة، أذكر ذات يوم أثناء دراستي الجامعية في مصر اصطفافي في طابور طويل يضمّ أشخاصا يلتمسون عضوا في البرلمان ليقضي لهم حاجاتهم، كانت معظم الطلبات تتعلق بالغذاء أو المسكن أو العمل.

أتذكر دهشة عضو البرلمان حينما وقفت أمامه سائلا عما إذا كان بإمكانه مساعدتي في الحصول على كتاب عن تداخل الحمض النووي الريبي الذي لم يكن متوفرا في مصر حينئذ. وعلى الرغم من أن عضو البرلمان لم يستطع توفيره لي، فإنه مقتنع أن محادثتي بشأن قضية علمية ودراسية معه كانت مغايرة لنوع الطلبات التي اعتاد عضو البرلمان التعامل معها كما أظهرت لي هذه المناقشة مدى ضآلة معرفة المُشَرِّعِين باهتمامات العلماء الشباب.

كن مثابرا

لقد مررت بالعديد من الأوقات التي كانت تؤدي ربما إلى استسلام أي شخص أو القبول بصغائر الأمور. فعلى سبيل المثال، حين كنت في مصر رفضت عرضا أوليا من برنامج فولبرايت الأميركي من أجل فرصة في ألمانيا كنت قد قُبِلتُ بها بالفعل، غير أن تلك الفرصة قد باءت أيضا بالفشل نتيجة لأمور روتينية رتيبة وغير مدروسة من قبل البرنامج المانح.

كان عليّ حينئذ أن أضمد نفسي وأرفض الاستسلام، وبالفعل تقدمت مرة أخرى لمنحة فولبرايت وقُبِلت فيها مجددا، وسافرت منها إلى الولايات المتحدة. وبعد إدراكي لكل هذه الأمور الآن، أرى أن كفاحي ومعاناتي قد ساعداني على تطوير صفات المرونة والمثابرة، وهي سمات مهمة للعلماء. فضلا عن ذلك، فقد ساعدني الاحتكاك بالثقافات المختلفة شخصيا على النمو والازدهار.

لقد استغرق الأمر 10 سنوات والعديد من البدايات الخاطئة، لكنني أخيرا في طريقي للحصول على درجة الدكتوراه في مؤسسة أشعر فيها بالاحترام والتقدير.

أعلم أن الطريق إلى الدكتوراه قد يكون وعرا، ولكنني أتذكر في لحظات الشك الكلمات الرائعة للكاتب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ “لا تجزع فقد يُفتَح الباب يوما ما، تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”؛ تلك الكلمات التي ترشدني دوما بأن الفرصة ستأتي لمن أدمن طرق الأبواب بإصرار وطموح.

إشادة حجي

وعقب مشاركته للخبر، ورابط المقال على صفحته الرسمية على الفيسبوك، علق العالم المصري بوكالة (ناسا), الدكتور عصام حجي على مقال شعبان بقوله “مقال رائع لوجه مصري مشرف على الصفحة الأولى لمجلة نيتشر العريقة، الدكتور محمد شعبان ورحلة كفاحه، مقال يستحق القراءة ونصائح مهمة لشباب الباحثين”.

وفي تصريح لموقع (الجزيرة نت) قال العالم المصري الدكتور عصام حجي “نحن أمام نموذج جديد على المصريين، لأن العادة جرت أن يكون التفوق مرتبطا بالماضي وليس بالمستقبل”.

وأضاف حجي, “هذا النموذج مهم جدا، ويعبّر عن تجارب جديدة للشباب المصري الذي يدرس في دولة متقدمة مثل أميركا، ويستكمل بحوثه في أوروبا أو العكس، ويجمع تجارب علمية دولية متميزة، وينجح في كل مكان، وهو نموذج مهم للكفاح وللنجاح، مختلف عن شكل العلماء في الماضي، ويستحق الإشادة والتعريف به”.

من جانبه أكد الدكتور شعبان في حديثة للجزيرة نت ما ذكره في مقاله بدورية “نيتشر”، ويقول “إن التأخير وخيبة الأمل من عوائق نجاح طالب الدكتوراه، ويمكن لاحتضان ثقافات جديدة تغيير الآفاق المهنية والمسارات الوظيفية”.

وبسؤاله عن مكان إقامته وعمله الحالي، بعد أن حكى تجربته في مصر والولايات المتحدة الأمريكية, وبريطانيا، أفاد شعبان بأنه حاليا طالب دكتوراه في البيولوجيا الهيكلية (البنيوية) في معهد “فرانسيس كريك” وفي جامعة “إمبريال كوليدج لندن” بالمملكة المتحدة.

طبيعة عمله البحثي

وعن طبيعة عمله البحثي الحالي، وخطواته المستقبلية، قال شعبان للجزيرة نت “أنا الآن في السنة الثانية من برنامج الدكتوراه، أستخدم المجهر الإلكتروني الفائق البرودة لدراسة الإنزيمات التي تَسِم البروتينات الخلوية إما لإدراجها في النشاط الخلوي أو لتدميرها؛ وهي آلية تساعد على تنظيم عمليات مثل تناسخ الحمض النووي والتحكم في انقسام الخلية”.

تعقيب على الحفاوة

وقد عَقَّب شعبان على الحفاوة بمقاله في صفحته على الفيسبوك قائلا “شكرا لكل إنسان كان أو ما زال له دور في نجاح هذه القصة، شكرا لأصدقاء وأساتذة كانوا وما زالوا قمة في الروعة والذوق والتقدير، بخاصة مَن تعرفت عليهم منذ بداية رحلتي في الخارج، ومنهم 3 مصريين لهم معي قصص ملهمة أخرى ستذكر يوما ما، إذ لم تسعني هذه السطور ولا خصوصية هذا المقال -المتعلق بالأمور البحثية بشكل أساسي- لذكر الدروس التي تعلمتها من هذه القصص الثلاث وسرد أياديهم. وأضاف “أصدقائي المقربين أنقياء القلب والفطرة، من دونكم لم تكن لمثل هذه القصة أن تُروى في يوم في أكبر مجلة علمية عالمية كدورية نيتشر، لقد كنتم أجمل مكتسباتي منذ بداية رحلتي البحثية، وما زلتم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى