حلول مبتكرة

العلم يواجه ارتفاع درجات الحرارة بالعودة لـ “مصائد الريح”

مع الارتفاع الملحوظ لدرجات الحرارة فى الآونة الأخيرة على مستوى العالم, بدأ خبراء العمارة في دراسة أنظمة التبريد المختلفة، وعلى رأسها, “مصائد الرياح” في الحضارات القديمة، مثل الحضارة الفارسية والمصرية القديمة باعتبارها وسيلة تبريد رخيصة وصديقة للبيئة وتصلح بدلاً عن مكيفات الهواء التي تستحوذ على خمس استهلاك العالم من الكهرباء.

ومن أجل ذلك اتجه العلماء, إلى المدن العتيقة التي اعتمدت هندستها على هياكل تبريد تحت الأرض، بالإضافة إلى التصميمات المعمارية للمنازل والبنايات التي كانت تعمل على مواجهة ارتفاع درجات الحرارة، فهل العلم بصدد عودة إلى الماضي؟ وهل سنضطر في المستقبل إلى الاستغناء عن أجهزة التكييف القابعة اليوم في بيوتنا؟

عام 2019 نشرت صحيفة “الجارديان” البريطانية تقريرًا عن استخدام مكيفات الهواء، وكيف تتسبب في احتقان أزمة المناخ من خلال أضرارها البيئية، وتناول التقرير الارتفاع الكبير في درجات الحرارة الذي شهدته مدينة نيويورك الأمريكية في شهر أغسطس عام 2019، وكيف يساهم ذلك في زيادة استهلاك الكهرباء بأرقامٍ قياسية خلال الموجات الحارة.

وحدات تبريد الهواء

وتعتبر أجهزة تبريد الهواء من أعلى أجهزة استهلاك الكهرباء؛ إذ تستهلك وحدة التبريد الصغيرة، التي بالكاد تكفي لتهيئة طقس غرفة واحدة، طاقة تعادل استخدام أربعة ثلاجات، أما وحدات تبريد الهواء المركزية فتستهلك ما يعادل 15 ثلاجة، بحسب الجارديان.

وفي بكين، عاصمة الصين، كان 50% من استهلاك الكهرباء عام 2018 ناتجًا عن استخدام مكيفات الهواء خلال موجات ارتفاع درجات الحرارة التي عانت منها المدينة، أما بخصوص الاستهلاك العالمي، ففي عام 2019 كان هناك ما يزيد عن مليار وحدة تكييف بالعالم، وهو ما يعادل وحدة لكل سبعة أفراد على وجه الأرض.

التوقعات عام 2050

وتشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2050 من المحتمل أن يكون هناك ما يزيد عن 4.5 مليار وحدة تكييف بالعالم، وتتوقع (هل فيه بيان؟) “وكالة الطاقة الدولية” أنه بحلول ذلك الوقت سيكون 13% من إجمالي استهلاك الكهرباء بالعالم ناتجًا عن استخدام مكيفات الهواء، وهو ما سينتج عنه 2 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء.

فإذا كانت درجات الحرارة المرتفعة تدفعنا إلى الاستخدام المتزايد لأجهزة تبريد الهواء؛ فإن الاستخدام المتزايد لهذه الأجهزة سينتج عنه ارتفاع أكبر في درجات الحرارة العالمية، ومع الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة يتزايد الطلب على مبردات الهواء وكأنها حلقة لا تنتهي.

وعلى الرغم من أن مكيفات الهواء كانت واحدة من أهم الاختراعات في التاريخ، وأنها مكنت سكان البلدان الاستوائية والحارة من العيش في أجواء مناخية لم تكن لتحتمل دونها في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما نتج عنه تغييرات ديموغرافية وسياسية كبيرة، إلا أن مكيفات الهواء مثلها مثل أغلب الاختراعات الحديثة، لم تخل من التأثيرات البيئية الضارة؛ وهو ما دفع علماء الطاقة والمناخ للبحث عن بدائل جديدة.

التجربة السعودية.. أبراج الرياح

تناولت إحدى الدراسات الحديثة التي نُشرت عام 2015 بـ”جامعة الأميرة نورة” في المملكة العربية السعودية دور أبراج الرياح في التبريد التبخيري السلبي، وألقى الباحث رضوان قصير الضوء على الإمكانات الخاصة لتلك الأبراج في توفير الطاقة، كما بحث إمكانية توسيع استخدامها في المستقبل للحفاظ على البيئة.

ويجري حاليًا دراسة وتصميم تلك الأبراج لتوفير هواء بارد للفناءات شبه المفتوحة في المناطق الحارة والجافة بمدينة الرياض عاصمة السعودية، وذلك من خلال مزج السُبُل التقليدية لتبريد الهواء في الحضارات القديمة (التي تعتمد على البراعة الهندسية) بالتطورات التكنولوجية الحديثة.

مصائد الرياح

وقديمًا جرى مصائد الرياح في منطقة فارس باعتبارها أداة طبيعية للتهوية، ولتقليل درجات الحرارة في الأماكن المغلقة والحارة؛ وعادةً ما كانت تلك المصائد تتكون من أبراج مربعة ومجوفة مع فتحات جانبية لصيد الرياح؛ مما يخلق تيارًا هوائيًا في عمود البرج، يعمل على تهوية مساحة المبنى.

وتعمل فتحات التهوية داخل مصائد الرياح على دفع الهواء الساخن خارج المباني المغلقة؛ إذ تعمل الأبراج على خلق تدرجٍ للضغط يدفع الهواء الساخن إلى أعلى، فيما تعمل الفتحات العمودية الضيقة على توجيه الرياح الباردة التي تهب على ارتفاعات عالية إلى داخل الأبراج.

وعندما يصطدم تيار الهواء مع مادة رطبة أو مبللة مثل الطين أو نافورة مائية، يعمل ذلك على تلطيفٍ زائد لدرجات الحرارة وإضافة عنصر البرودة إلى النسيم المُستحثّ، ومع تطوير مصائد الرياح وإمكاناتها وفقًا للتطورات التقنية الحديثة، يمكن إنقاص درجات الحرارة حتى 10 درجات أقل.

التبريد فى حضارة فارس

يدرس الباحثون حاليًا نظم التبريد في الحضارات القديمة، باعتبارها وسيلة فعالة وآمنة وصديقة للبيئة من أجل تلطيف درجات الحرارة، فمع الانبعاثات الكربونية الناتجة عن استخدام مكيفات الهواء يبحث الأكاديميون الآن البدائل المتاحة، والتي تعتمد على توفير الطاقة، ومن بين تلك البدائل، نجد “مصائد الرياح”.

وفي مدينة يزد الفارسية، وسط صحراء إيران، نجد نماذج للبراعة الهندسية القديمة في تصميم المباني، والتي كانت تتضمن هياكل تبريد تحت الأرض عن طريق قنوات ري تسمح بأن يصدم الهواء بالماء البارد؛ مما يعمل على تلطيف إضافي لدرجات الحرارة، ويعود هذا النظام إلى أكثر من ألفي سنة فائتة.

ومن بين تقنيات التبريد بمدينة يزد التاريخية أيضًا نجد «مصائد الرياح» ويشار إلى أن المدينة تحتوي على أكبر عدد لمصائد الرياح في العالم؛ وهي هياكل صُممت فوق أسطح البنايات؛ وغالبًا ما تكون أبراجًا مستطيلة الشكل أو دائرية أو مربعة، مجوفة من الداخل مع فتحات للتهوية لالتقاط الرياح من اتجاهات متعددة.

وساعدت تلك التقنيات قديمًا على تسهيل العيش في الأماكن الحارة والقاحلة، وجعلتها قابلة للحياة، وهو ما جعلها اليوم قِبْلة للباحثين، لمعرفة الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل التبريد العتيقة في تلطيف الموجات الحارة في عالم تتزايد به درجات الحرارة بشكلٍ متسارع.

التبريد فى الحضارة المصرية القديمة

لم تكن الحضارة الفارسية وحدها هي التي استخدمت تقنيات التبريد تلك لجعلِ الأماكن القاحلة صالحة للعيش، بل استخدمها العرب والبابليون، كما أنها وجدت في الحضارة المصرية القديمة، والتي نجد أقدم صورة لها في النقوش واللوحات التي يرجع تاريخها إلى 1300 قبل الميلاد في مصر القديمة بالقربِ من الأقصر.

وجعلت النقوش التي تصور هيكلين مثلثين فوق المقر الملكي للحاكم علماء الآثار يعتقدون بأن أول “مصائد الرياح” يعود أصلها للحضارة المصرية؛ إلا أن تصميم معبد النار الفارسي الذي يعود تاريخه إلى 4 آلاف سنة قبل الميلاد، ويتميز بهياكل شبيهة بالمداخن فوق سطحه دفع علماء الآثار الإيرانيين إلى نسبِ مصائد الرياح إليهم.

“ملاقف الهواء”

وظلت مصائد الهواء موجودة في المنازل المصرية في العصر المملوكي، وأطلقوا عليها “ملاقف الهواء”؛ إذ كانت تتلقف الهواء البارد؛ كما تساعد الهواء الساخن على الارتفاع إلى أعلى فتنخفض بذلك درجات الحرارة، ولا زالت بعض آثار تلك الفترة موجودة حتى الآن في القاهرة الفاطمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى