تعليم

القدرة على الحفظ موهبة وترتيب المعلومات وتصنيفها بعد دخولها العقل نوع مميز من أنواع الذكاء

يعتقد الكثيرون أن القدرة على الحفظ تعني الغباء، فهم يقرنون الحفظ مع سوء الفهم ويسمونه “الصم”، والبعض يعتقد أن الطلبة المتفوقين الذين يحصلون على درجات مرتفعة في الثانوية العامة، ويلتحقون بكليات مثل الطب والصيدلة والسياسة والاقتصاد والآداب مثلا، هم مجرد “صمامين”، لا يفهمون حتى ما يحفظونه.

هذا الاعتقاد خاطئ تمامًا وغير صحيح على الإطلاق، فالقدرة على الحفظ موهبة، وترتيب المعلومات وتصنيفها بعد دخولها العقل نوع مميز من أنواع الذكاء لا يوجد عند كثير من الناس، وهو نوع من الذكاء يختلف عن الذكاءات التقليدية المعروفة، والتي تشمل الذكاء الحسابي والذكاء اللغوي والذكاء الهندسي، والتي يقاس بها معامل الذكاء التقليدي  Intelligence Quotient)  IO).

من المهم جدا أن  يستخدم الإنسان القدرة على الحفظ في الاحتفاظ بالبيانات المفيدة (Data) والمعلومات القيمة (Information) التي يتعلمها ويكتسبها على مدار السنين  ثم استرجاعها والاستفاد منها لبناء معرفة ذكية (Knowledge) تفيد المجتمع والناس، وهو ما يسمى “الإبداع” أو “الابتكار”، وهذه هي طريقة حفظ المتفوقين والتي تجعلهم متميزين فعلا وليسوا فقط أذكياءً عاديين.

ولا يمكن أن يعمل العقل “المبدع” وهو فارغ، أي لابد أن توجد داخل ذلك العقل كمية كبيرة من البيانات والمعلومات والمعرفة المخزنة، ويتم استرجاع تلك البيانات والمعلومات والمعرفة حينما يحتاجهم، حتى دون أن يشعر، لكي يتميز ويبدع ويبتكر وينتج أعمالا ذات قيمة وأصالة، يعني يبدع أعمالا جديدة سواء في مجال العلوم الإنسانية أو في مجال العلوم التطبيقية، وهذا ما يقوم به العلماء والمخترعون والمفكرون والمبدعون والمجددون في كل مجال.

مثلا لو لم يكن الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل قادرين على الحفظ والتدبر والاسترجاع والاستنباط، ما كانوا قادرين على إنتاج تلك المعرفة الهائلة وذلك الإبداع الكبير المتمثل في مذاهبهم الأربعة، ونفس الكلام ينطبق على الإمامين البخاري ومسلم وصحيحيهما، ومن قبلهم جميعا ينطبق على الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وكل رواة الحديث الذين حفظوا واحتفظوا بالأحاديث الشريفة للرسول عليه الصلاة والسلام ومرروها للأجيال من بعدهم، كما ينطبق على كل العلماء والمبدعين والمخترعين والمتنورين الذين قدموا علوما وفنونا وآدابا راقية خدمت البشرية على مدار عمرها كله.

الطبيب مثلا عندما يقوم بتشخيص مرض ما، لابد له أن يسترجع كل المعلومات والمعارف التي اكتسبها من خلال دراسته وخبرته وممارسته للطب، ويربط بينها لكي يستطيع استنتاح واستنباط وتشخيص المرض الذي يعاني منه المريض تشخيصا صحيحا.

يقال: “ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ، ما العلم إلا ما حواه الصدر”، والقمطر هو وعاء الكتب، أي أن العلم الحقيقي هو ما يوجد داخل العقل وليس ما يوجد في صناديق الكتب أو على أرفف المكتبات.

قال الإمام الشافعي (767 – 820):

علمي معي حيثما يممت يتبعني… قلبي وعاء له لا جوف صندوقِ.

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي… ولو كنت في السوق كان العلم في السوقِ.

وقال ابن حزم  الأندلسي (994 – 1064):

فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي… تضمنه القرطاس بل هو في صدري.

يسير معي حيث استقلت ركائبي… ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري.

د. هانى سليمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى